الإثنين 2019/04/01

آخر تحديث: 00:24 (بيروت)

التقشُف الجائر بالرواتب والتقاعد

الإثنين 2019/04/01
التقشُف الجائر بالرواتب والتقاعد
الدولة هشّة مرتعشة، والأزمة عميقة وعاتية (Getty)
increase حجم الخط decrease

موازنة تقشفية في 2019 فوراً. وملف كهرباء لبنان. شأنان ستعمل عليهما الحكومة ومجلس النواب في الأسابيع المقبلة. وكلاهما ملحٌ وواجب التنفيذ على عجل. التحذير بالخطر أبلغه موفد المصرف الدولي إلى بيروت فريد بلحاج إلى المسؤولين، وأُفهم علناً. لائحة الموفد الدولي إلى بيروت كانت طويلة، ولم تُعلن تفاصيلها. كلها غير شعبية. وقد بدت معالمها كناية واستعارة.

الرحلة الطويلة
سننسى وظيفة الموازنات الاستثمارية والاجتماعية. شدّ الأحزمة مطلوب والتقشف والإنقاذ. وبينهما في الضرورة خطوات إصلاحية، ليست بديلة من الإصلاح الشامل، الهيكلي والقطاعي. إجراءات التقشف القاسية تحتاج إلى دولة عميقة لا تصدها ثقة مفقودة. قضية مكافحة الفساد تحتاج لتصل إلى أكثر من "شوفير المدام والمستر". إلى الهوامير والعتاولة. وقبل ذلك إلى تفعيل المحاكمات والوصول إلى نتائج في وقت قريب. حملة مكافحة الفساد طويلة. قد تكون الجزء الأهم من الإصلاحات الهيكلية. ويجب أن تسبق الإصلاح القطاعي. فالإدارة هي وعاء المال والبرامج والمشاريع. رحلة مكافحة الفساد طويلة جدا ومفتوحة. وبالتالي فالإصلاح نهج ومسار سياسيان يستغرقهما وقت للحكم على النتائج. بينما الموازنة هي سنوية. وقد دخلنا الشهر الرابع من دونها. وننفق على القاعدة الإثنتي عَشرية. مرة جديدة ستقطع موازنة 2019 تحت الضغوط. صحيح أن معالم الإصلاح يجب أن تبدأ في الموازنة. لكن العلاقة الطردية بين الإصلاحين الإداري والمالي، وبين الإصلاح الشامل ومحاربة الفساد، لازمة لا بدّ منها.

الخياران الصعبان
مرة أولى يتحدث المسؤولون جِدياً عن تقشف في الموازنة. التقشف لا يعني التقتير في الإنفاق، كما تفسيره السهل الرائج. هو خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية، واجهتها الدول الأوروبية وأخرى في أميركا اللاتينية في السنوات الأخيرة. أفضلية الإنفاق لحساب النمو وفرص العمل، أم التقشف الجائر لخفض العجز المالي وتصويب الموازنة بصرف النظر عن النتائج الاقتصادية والإجتماعية؟ الخيار الثاني هو الذي انتصر أوروبياً بقرار حاسم من ألمانيا. الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند دفع ثمن تبنيه الخيار الأول. اليونان التي بدأت تتلمس الخروج من الأزمة تبنت الخيار الثاني الجائر في كل الميادين وصولاً إلى برامج الصحة والغذاء والأجور. باعت عدداً من جزرها، أيقونة السياحة وموارد الاقتصاد. لكن الأزمة أطاحت خلال ستة شهور ثلاث حكومات. حزب سيريزا اليساري هو الذي تولىّ المهمة. إستقال وزير المال يانيس فاروفاكيس، مفكر الحزب الناقم على الرأسمالية. وترك تلميذه رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس يكمل عمله. الأرجنتين واجهت المشكلة نفسها على وقع تظاهرات الطناجر. ولم تخرج من الأزمة في الكامل على غرار اليونان.

أبواب التقشف
لكن في كل تلك البلدان، كانت هناك دولة عميقة وسلطة دستور وقانون. هذا حصن الدولة الحصين. لبنان فريد من نوعه. طبعة مهجّنة أولى وأخيرة. الدولة هشّة مرتعشة، والأزمة عميقة وعاتية. وفي تلك البلدان، كانت هناك مشاريع استثمارية، وشبكات تأمين اجتماعية وصحية، وبرامج إنفاق للنمو والتنمية. وموازنات تحتمل اقتطاع التمويل والتقشف. وكان هناك أهم من كل ذلك: الثقة بين الشعب وبين الحاكم. نحن لا شيء من ذلك وذينك. لا ثقة. ولا شبكات تأمين ولا نمو ولا تنمية. الحكومة السابقة حملت شعار "استعادة الثقة". الحكومة الحالية "إلى العمل" سمّاها رئيسها. وكان يفترض أن يكون شعار كل الحكومات، ليتحقق واقعا ملموساً وتستعاد ثقة مفقودة.

إيرادات الموازنة على الأجور والتقاعد وفوائد الدين. الأخيرة وحدها أكثر من 6 مليارات دولار أميركي في 2019. من أين سيأتي التقشف؟ هناك بعض الأبواب. 750 مليار ليرة  (500 مليون دولار) لجمعيات لا تحظى بأي نوع من الرقابة. وبعضها مجهول الأثر في الميدان الذي تعمل به. معظمها سياسي وطائفي و"جمعيات الحرملك والأنساب، والمستر والمدام". وبعض المدارس المجانية. إحتياط الموازنة يحتمل 600 مليار ليرة خفضاً. ثم النفقات الإدارية، والتجهيزات المكتبية، وإيجارات الأبنية الحكومية خصوصا في الوسط التجاري. والسيارات الحكومية الفارهة، مدنية وعسكرية، نفقات الوفود إلى الخارج. وليس على وجه الحصر، أبواب إنفاق تجمع متى جُمعت. لكن لا يُعتد بها. نعم، هناك الإهدار المالي. التعبير المهذب للسرقة، والإستحصاص واستنزاف القطاع العام. والسطو على المشاريع بصفقات من خارج ادارة المناقصات. وبعيداً من الرقيب والمحاسب الإداري والنيابي. فقدنا الأمل باستعادة حقوق الدولة والأملاك البحرية والبرية وملياراتها. حين تصل حملة مكافحة الفساد إلى رؤساء الكتل النيابية وزعماء الطوائف وسدنة النظام، نقول يمكن تأمين الموارد للإنقاذ. أمّا اتهام "شوفير المدام والمستر" فلا يسمن.

حقوق الموظفين
الكلام الآن بخفر عن خفض الرواتب وتعويضات التقاعد، بما في ذلك للأسلاك العسكرية والأمنية. الدولة يمكنها إمرار إجراءات مماثلة لو كانت تحظى بالثقة. تسرب الحكومة أن لا ضرائب جديدة في قانون الموازنة. وعن الضريبة نلحظ أمرين. يمكن إقرار الموازنة بلا ضرائب، وتشريع ضرائب بقوانين مستقلة. لكن الاقتطاع من رواتب العاملين في القطاع العام والأسلاك العسكرية والأمنية هو ضريبة موصوفة، ويحتاج إلى تشريع. لكونه يصادر حقوقاً مكتسبة بني عليها نمط إنفاق الأسر، وتترتب عليها ذممٌ مالية للغير، ديوناً مصرفية، وسكنية، وأقساط تعليم، وإيجارات وخلافها.

تتهيب الحكومة حالياً إصدار سندات يوروبوندز جديد، قد يصل إلى ملياري دولار أميركي. وربما أتى على دفعتين بعد تنسيق مع المصارف ومصرف لبنان. فوائد الدين العام عبء ثقيل. لمجرد إقرار الموازنة بضبط الإنفاق، تتحسن الأوراق المالية الخارجية وأسعارها ويتراجع معدل الفوائد عليها. وفي الوقت نفسه، قد يتحسن تصنيف لبنان وتتراجع معدلات الفوائد تلقائياً. بما في ذلك فوائد سندات الخزانة بالليرة اللبنانية، وهي قاعدة الفوائد التجارية للاستثمار والاقتصاد. ومن شأن ذلك تحسين ودائع المصارف والتدفقات النقدية الخارجية. وخفض العجز في ميزان المدفوعات. والحدّ من الهندسات المالية غير التقليدية لمصرف لبنان، لجذب الدولارات بآليات فوائد على منتجات مركّبة متبادلة بين الليرة وبين الدولار الأميركي، ترتقي في محصلتها إلى أكثر من 15 في المئة حداً أدنى.

لم يُفقد الأمل بعد. لكن بدء التقشف بحقوق الموظفين المكتسبة أجوراً وتقاعداً، وقصور في ملاحقة رؤوس الفساد، أمرٌ لا تقوى عليه الدولة الوهِنة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها