وفي المحصلة، يرزح الميزان التجاري اللبناني بعجز يوازي 14.5 مليار دولار (نهاية 2018)، ما يعني ان الواردات أكبر من الصادرات، وهو ما يعكس من جهة، ضعف حال المنتجات اللبنانية وعدم قدرتها على المنافسة في الخارج، ومن جهة أخرى، غياب الكثير من الصناعات المطلوبة في السوق اللبناني، وتحديداً تلك المرتبطة بالصناعات الثقيلة والصناعات التكنولوجية والمعدات الطبية.. وغيرها. وفي ما عدا تلك الصناعات، يصنع لبنان الورق والبلاستيك، الزجاج، الألمنيوم، الحديد، الأخشاب، بعض المصنوعات الكيماوية كمساحيق التنظيف، وصولاً إلى الدهانات والزفت، فضلاً عن صناعة المنتجات الفولاذية والإسمنتية، كأحجار الباطون والخرسانات الإسمنتية والمرصوفات الإسمنتية، كأحجار الأرصفة وما شابه. ناهيك بالصناعات الغذائية.. وما يفوق 20 مجالاً صناعياً مرخصاً من وزارة الصناعة، وكلها عرضة للمنافسة الخارجية، من دون حماية.
تعميم الحريري
يتجاهل التعميم القاضي بإعطاء "حق الإستفادة من الأفضلية الممنوحة للسلع المصنوعة في لبنان"، في أي تلزيمات تجريها الإدارات والمؤسسات العامة، حال الصناعات اللبنانية. فالتعميم الذي أصدره رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، يوم الأربعاء 20 آذار، والمعطوف على التعميم رقم 2/97 تاريخ 18/12/1997، يأتي منسلخاً عن دور الحكومة في تطوير المنتجات اللبنانية. فالحكومات المتعاقبة تقف عاجزة أمام إقفال الكثير من المؤسسات اللبنانية، ولا تقدّم الدعم المناسب لها. وفجأة، تُلزم الحكومة بصورة غير مباشرة، المتعهدين وأصحاب المشاريع مع الدولة، بإعتماد منتجات لبنانية، أغلبها دون المعايير العالمية المطلوبة. وهذا ليس عيباً تتحمل مسؤوليته الصناعات اللبنانية، وإنما هو شهادة بالتقصير تُعلّق على صدر الحكومات.
وبعيداً عن جودة المنتجات اللبنانية، فإن إصدار تعميم يُعيد التذكير بتعميم صادر منذ نحو 20 عاماً، هو دليل على تجاهل الإدارات الرسمية للتعاميم والمراسيم والقوانين. ويؤكد الحريري في التعميم الجديد أن "بعض الإدارات العامة والمؤسسات العامة ما زالت لا تقوم عند وضع دفاتر شروط التلزيمات أو عند فض العروض، بتطبيق القوانين والمراسيم المرعية الإجراء التي تعطي حق الإستفادة من الأفضلية الممنوحة للسلع المصنوعة في لبنان عن السلع الأجنبية".
تذكير الحريري بالتعميم القديم، تُستثنى منه إدارة المناقصات في التفتيش المركزي، حتى وإن لم يسمّها الحريري، لأن الإدارة "تقوم بتطبيق التعميم القديم، وتلتزم بمعايير لا ينص عليها أحياناً دفتر الشروط المتعلق بالمناقصة، ومنها المعايير البيئية، التي تتجاهلها بعض دفاتر الشروط. لكن ما لا تعلم عنه الإدارة، هو حجم إلتزام الوزارات بتلك التعاميم والمعايير المنصوص عنها في الكثير من القوانين، ومنها على سبيل المثال، المادة 131 من قانون المحاسبة العمومية، التي تعطي للعروض المقدمة لسلع مصنوعة في لبنان أفضلية بنسبة عشرة في المئة عن العروض المقدمة لسلع أجنبية". وذلك وفق ما تقوله مصادر متابعة للملف، والتي تلفت النظر في حديث لـ"المدن"، إلى أن "عدد المناقصات التي تمر في إدارة المناقصات، قليل جداً نسبة للمناقصات التي تجري في الوزارات وباقي إدارات الدولة".
ومع ذلك، ترى المصادر أن التعميم التذكيري للحريري "إيجابي جداً، ويدل على الحرص على الرقابة"، خصوصاً وانه وضعه ضمن إطار التعبير عن نظرة الحكومة الجديدة حول "تنمية الإنتاج الوطني وإعطاء الأفضلية للسلع المحلية عن السلع الأجنبية".
وحسب التعميم، فإن رئاسة مجلس الوزراء ستراقب سير التنفيذ، من خلال التقارير الفصلية التي سترسلها المؤسسات العامة والبلديات وإتحاداتها عن الصفقات التي تجريها، وستتبيّن الرئاسة مدى تقيّد الجهات الرسمية بالتعميم وفقاً للأصول القانونية.
التزام السياسيين
لا جدال حول ضرورة التزام رأس الهرم بالقوانين والقرارات الرسمية. لكن في حال عدم التزامه، لا تُلام العامّة لعدم التزامها، وذلك من زاوية أخلاقية، فيما يبقى الالتزام القانوني إلزامياً، ولا يلغيه عدم التزام أحدهم.
وعليه، فإن مبررات التعميم يجب ان تنسحب على الأفراد وليس المؤسسات فقط. إذ ليس من المنطقي أن يعلل السياسيون تعاميمهم وقوانينهم بدعم المنتجات المحلية، فيما هم يفضّلون المنتجات الأجنبية، بدءاً من الألبسة وأثاث المنازل والمكاتب. فجولة سريعة على بعض متاجر الوكالات الحصرية للبضائع الأجنبية، كفيلة بتسجيل حضور نواب ووزراء، شخصياً أو عبر موظّفيهم. بالإضافة الى جملة من المدراء العامين وكبار الضباط العسكريين.. وغيرهم.
ليس المطلوب تغيير الطابع الرأسمالي للاقتصاد اللبناني تغييراً جذرياً، وإنما المطلوب التشدد بحماية المنتجات اللبنانية، عبر القنوات الصحيحة والمؤثّرة، وليس عبر تعاميم لم تكترث لها الإدارات الرسمية منذ عقدين، لأنها لا تحمل في متنها أدوات عقابية ردعية، ولا الموكل بتطبيقها غيورٌ على المصلحة العامة. فقوانين البلاد تُخرَق من أجل التسويات السياسية، فكيف بتعميم لا يملك قوّة القانون؟.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها