الإثنين 2019/12/30

آخر تحديث: 00:26 (بيروت)

تحويلات وهندسات الرؤوس المهددة

الإثنين 2019/12/30
تحويلات وهندسات الرؤوس المهددة
النظام الزبائني السياسي المنحطّ أخلاقيّاً هو الحاضنة وراعي الانهيار (Getty)
increase حجم الخط decrease
لن تبلغ قضية التحويلات المالية إلى الخارج خواتيمها الشفّافة والحقيقية، من دون أن تطيح رؤوسًا كبيرة في المال والسياسة، وتفتح أبوابًا نحو منعطف يصيب "الأوليغارشيا" من تحالف السلطة والمال مباشرة. أي التحالف الذي خرج عليه الشعب في ثورة سلمية بعد أن وصل بالبلاد إلى الانهيار. لا يمكن أن تضحّي المصارف بالثقة فيها وتُمسك عن سداد حقوق المودعين لدى استحقاقها أصلًا وفائدة بعملة الوديعة، ما لم يكن هناك من خَطبٌ كبير. ولا يمكن أن يترك مصرف لبنان سوق القطع للصيارفة، من دون مجرد إيماءة إلى السوق لوقف الهبوط المريع في سعر الصرف لو كان قادرًا على ذلك. ولا يمكن أن يستغيث رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري بالدول المانحة للمساعدة في تأمين تمويل فواتير المحروقات السائلة والقمح والأدوية، لو كان في خزانة الدولة ما يفي بالحاجة. ولا يمكن أن تكتفي السلطة السياسية بمشاهدة انهيار من صنيعتها، ويستمر سدنتها يتصارعون على حقائب ووزارات في حكومة قيد التأليف، لو لم تُسرف في الفساد وانتهاك الدستور والاستخفاف بالمصير.

ليس الوقت لتوزيع المسؤوليات. النظام الزبائني السياسي المنحطّ أخلاقيّاً ووطنيّاً بلا تردّد، لا أمل منه ولا ملاذ فيه. هو الحاضنة وراعي الانهيار. لازمته ضلع "الأوليغارشيا" الثاني. نموذج الريوع والقوميسيون والفوائد. كنا نقول دائمًا، أن استقرار سعر صرف الليرة حاجة وطنية واستثمارية واقتصادية. لكن ذلك لا يكون بتنقيد الاقتصاد وترييعه كي يتغذى الاستقرار من الفائدة والنقد بذاتيهما. بل من الاقتصاد ينتج سلعًا وحًدمات، واستهلاكًا، وصادرات وفرص عمل. وقد أتيحت لنا من فرص الدفق النقدي وفوائض ميزان المدفوعات ما يكفي ويزيد لتحقيق الغايتين معًا ولم نفعل. ولا مرة حمّلنا حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منفردًا، مسؤولية الضغوط التي واجهتها الليرة اللبنانية في ظل العجز المالي والدين، والسياسة المالية الجائرة التي لا يستقيم استقرار نقدي في ظلها. حمّلناه مسؤولية قيام مصرف لبنان بوظيفة ليست من شأنه أصلًا.

حارس الأوليغارشيا
أن يستمر في تمويل سلطة سياسية زبائنية يدرك سلامة إنها سلة فارغة تستنزف قدراته للقيام بدوره الأساسي بحسب المادة 70 من قانون النقد والتسليف. ومؤدّاه الحفاظ على سلامة النقد اللبناني، والاستقرار الاقتصادي وسلامة النظام المصرفي. و"لهذه الغاية يمارس المصرف (مصرف لبنان) الصلاحيات المعطاة له بموجب هذا القانون". ومن بين ما لحظت المادة 76 من القانون كي تتناسب مهمّة مصرف لبنان في المجالات المذكورة، الإبقاء على الانسجام بين السيولة المصرفية وبين حجم التسليف. وللمصرف اتخاذ اجراءت واسعة لتحقيق ذلك.

كان حاكم مصرف لبنان يعلم الشائع عن عدم التناسب بين آجال الودائع وبين آجال التسليفات (Mismatching). ففي ظل بيئة مالية مناوئة، وعجز مستمر دأب مصرف لبنان على تمويل احتياجات الخزانة والموازنة بالدين من المصارف. وكان سلامة على دراية بمناحي التمويل السالبة الأربعة في وقت واحد. تغذية سياسات حكومية قائمة على الإهدار والفساد. نفقات جارية على الرواتب والفوائد بالكاد تصل فيها الجزء الاستثماري إلى 2 في المئة من موازنات غير مقرّة بقوانين في الأصل، ولا أثر اقتصادي لها. وانكشاف خطر للمصارف على ديون دولة منقوصة السيادة ومخفوضة التصنيف. وكلّما تدنّى تصنيف الدولة لحق به تصنيف المصارف. المصارف بدورها كانت تدرك هذه الحقيقة وأسرفت في تمويل سلّة النظام الزبائني الفاسد طمعًا بالفوائد. وتتحمّل مباشرة مسؤولية إدارة سيولتها وإدارة الائتمان. وليست ملزمة بهذا النوع من التمويل. والحصافة تقتضي أن تموّل المصارف الاستثمار والاقتصاد لتعيد ملء مخزونها من عائدات النمو والاقتصاد. خصوصًا أن حساباتها باعتبار توظيفاتها في سندات خزانة الدولة في درجة صفر مخاطر، وسيولة جاهزة غبّ الطلب باتت من الماضي. العكس صحيح. الانكشاف على ديون الدولة بات في درجة المخاطر العليا على المصارف كي تلبّي حقوق مودعيها. لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ. بات مصرف لبنان مقرضًا كبيرًا للدولة، وقبوًا دافئًا لتوظيفات المصارف في شهادات الإيداع والودائع. ليستمر ما سمّيناه في مقالة سابقة "زواج المتعة" بين الدين والليرة. الحكومة مطمئنة لاستدامة التمويل، ومصرف لبنان يعقّم الودائع، ويهندس الدين لتثبيت سعر صرف الليرة. كل ذلك كان بموافقة الحكومات ووزراء المال ولجنة المال والموازنة. مجلس النواب غائب عن السمع والرقابة عمدًا. وعن الرقابة والمساءلة. مصلحة النظام الزبائني تقتضي حراسة الأوليغارشيا.

لكن حاكم مصرف لبنان ما كان عليه أن يقبل بوظيفة ليست للمصرف أساسًا إلّا في حالات استثنائية جدًا تلجأ فيها إليه. وعليها سداد السلف في فترة زمنية محددة قانونًا. هنا يتحمّل سلامة مسؤولية هندسة الانهيار. وقد تبين أنه ذهب إلى أبعد في الهندسة المالية الشهيرة التي عقدها مع المصارف في 2016. فبحسب المعلومات الأكيدة لم يُطلع سلامة المجلس المركزي لمصرف لبنان على تلك الهندسة إلّا بعد الشروع بها، حين سؤاله في إحدى جلسات المجلس عن حقيقة إحدى العمليات مع مصرف كبير جدًا. وقد بلغت مفاعيل توظيفاتها المركبّة من الدولار الأميركي والليرة اللبنانية مليارات الدولارات. والمجلس المركزي هو الذي يحدّد بموجب قانون النقد والتسليف سياسة المصرف النقدية والتسليفية، ويضع أنظمة تطبيق القانون. ويحدّد في ضوء الأوضاع الاقتصادية، معدل الحسم، ومعدل فوائد تسليفات المصرف. ويتذاكر في جميع التدابير المتعلقة بالمصارف. ويضع الأنظمة المتعلقة بعمليات المصرف. عملية كهذه لا يمكن أن تعبر من دون موافقة المجلس المركزي لمصرف لبنان. سلامة بالصلاحيات الهائلة التي ينفرد بها حاكمًا للمصرف، هندس للنظام السياسي الزبائني. ودفعه نحو الاستمرار في زبائنيته. وصلنا في نهاية المطاف إلى عملة يتحكم بها مجموعة من الصيارفة ودولة قرب درجة التوقف عن الدفع وودائع "ترقد برجاء القيامة"!

التحويلات بالأسماء
لائحة التحويلات المالية باتت في متناول حاكم مصرف لبنان. ليس السؤال عن الصحيح منها والمتاح الذي يحميه القانون والدستور. بل عن تحويلات سياسيين ومساهمين في بعض المصارف وبعض كبار المديرين. القيود الذاتية على التحويلات تمت على أسس تمييزية خلافًا للقانون. التحويلات الكبيرة سبقت القيود. ولجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان قادران على معرفة التحويلات من ميزانيات سنة 2019. والهيئة الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وأموال الإرهاب التي يرأسها حاكم مصرف لبنان، يمكنها معرفة أصحاب التحويلات بالأسماء في حال وجود شبهات بالأموال المحولّة. وتزويد القضاء بها ليطّلع على وجهة التحويل ولمصلحة مَن. أمّا استرداد الأموال فرحلة قضائية دولية طويلة، يفترض أن تبدأ في لبنان أولّا. وتتعهدها حكومة وسلطة نظيفة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها