السبت 2019/11/30

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

اقتصاد طرابلس ينهار: "لا أحد منّا سيبقى واقفًا"

السبت 2019/11/30
اقتصاد طرابلس ينهار: "لا أحد منّا سيبقى واقفًا"
أغلقت محلات كثيرة أبوابها وأُلصق عليها ورقة لـ"البيع" أو "الاستثمار" (نذير حلواني)
increase حجم الخط decrease
نهار الجمعة، كان المشهد في طرابلس مأساويًا، نتيجة إغلاق محطات الوقود. حالة من الهلع والهيستريا، طُبعت على وجوه مواطنين ومواطنات لم يجدوا محطةً لتعبئة البنزين. أحد سائقي التاكسي يقول لنا: "صارت سياراتنا مثل جيوبنا فارغة". كان يُحاكي نفسه غاضبًا، يركن سيارته جانبًا ويسأل مستنكرًا: "هل يريدون أن نسرق؟ هل يريدون أن نأكل بعضنا؟ لماذا كل هذا الإذلال؟ هل أصبح مصيرنا أن نحلم بالبنزين ورغيف الخبز؟". يعترف السائق بخشيته من مجاعة تضرب البلاد، ويعترف بعزوفه عن النزول إلى الشارع للتظاهر ضدّ السلطة، ويبرر ذلك بالقول: "هذه السلطة وقحة وفاسدة وعديمة الأخلاق، لا يمكن أن نستمر بالتعاطي معهم في الشارع بكلّ هذه الدعابة والسلمية، وإن لم نواجههم بالقوة والعنف أمام منازلهم وفي المؤسسات التي استولوا عليها، لن يستجيبوا لنا أبدا، إنما سيتمادون في استنزافنا وإذلالنا".

حال طرابلس يسوء يومياً، ليس فقط في كل ما يتعلق بالقضايا المعيشية اليومية، لكن أيضاً في مقومات اقتصادها.

في شارع قاديشا داخل  طرابلس، يقف واصف السيد (65 عامًا)، أمام محلّه لبيع الألبسة، يلتفت يمينًا ويسارًا، من دون أن يعثر على زبونٍ راغبٍ بالشراء، فيدخل ليقلّب السراويل والقمصان، كأنّه ينفض الغبار عنها، ثمّ يتنهد عابسًا. السيد الذي سمي على اسم جدّه، يحمل إرثه بعد أن أنشأ في المدينة مؤسسة "واصف السيد للألبسة" منذ نحو قرنٍ وسبع سنوات، عند ساحة التلّ. ومن الجدّ إلى الأبّ فالحفيد الذي صار أبًا وجدًّا، بات هذا التاريخ الطويل تركةً ثقيلة، يكافح السيد ليلًا نهارًا من أجل الحفاظ عليها، والصمود أمام انهيارٍ اقتصاديٍ لم يشهد لبنان مثيلًا له، حتّى في أيام الحرب.

جميع الطبقات
كنّا نجول في أسواق طرابلس وبين محلاتها التجارية، كما لو أننا نتتبّع أحوال "صدمةٍ اقتصادية" لم يتلقفها الشارع بعد، في زمن انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي. لا ينفصل واقع عاصمة الشمال عن لبنان بمجمله، لكن وَقْع الكارثة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد يبدو عليها مُضاعفًا، وهي مدينة يعاني 26 في المئة من سكانها من فقر مدقع ويعيش 57 في المئة عند خط الفقر أو دونه، وفق تقارير الأمم المتحدة. أمّا ما يجعل من هذه الكارثة الاقتصادية حالةً طارئة وفريدة، تحت ضغط الشارع المنتفض، وعدم مبالاة سلطة تستبدّ في الحكم، فهو أنّها تطال جميع الطبقات والفئات الاجتماعية من دون أن تستثني أحدًا منها.

كانت نقطة الانطلاق من شارع قاديشا، أبرز أسواق المدينة وأعرقها، الذي يضمّ عشرات المحلات التجارية ذات جودة متوسطة وعالية. وهذا الشارع الذي كان معروفًا بحيويته، تحول إلى مساحةٍ مسكونةٍ بشبح الهدوء، بعد أن أغلقت محلات كثيرة أبوابها وأُلصق عليها ورقة لـ"البيع" أو "الاستثمار". أمّا من بقوا صامدين، فقد تحولت واجهات محلاتهم إلى مساحةٍ لإعلانات تكسير الأسعار والحسومات التي فاقت الـ 70 في المئة، من أجل جذب الزبائن للبيع ولو بخسارةٍ وبأبخس الأثمان.

ولّت أيام العزّ
نقف أمام محل السيد، ويخبر "المدن" أنّه على مدار ثماني سنوات، سجّل خسارة بقيمة 450 ألف دولار أميركي، وكل ما كان يسعى له هو أن يحافظ على إرث جدّه المعروف والعريق في المدينة. يرفض السيد ربط الأزمة الاقتصادية بالثورة الشعبية، وإنّما يعتبرها متجذرة في طرابلس منذ نحو سبع سنوات، "لا سيما حقبة المعارك بين جبل محسن وباب التبانة دفعت الاقتصاد الطرابلسي إلى الانحدار من سيء لأسوأ حتّى بلغ القعر". السيد الذي نقل محلّه من التلّ إلى قاديشا قبل ثلاث سنوات، يبلغ إيجاره 18 ألف دولار أميركي في السنة، ويستورد بضائعه للألبسة الرجالية من تركيا، وجزء منها من لبنان. يقول: "ساهمت هذه المؤسسة على مرّ تاريخها أن يعيش منها عشرات العائلات، وتفتح عددًا كبيرًا من البيوت، حين كان بيعنا يبلغ نحو 25 ألف دولار أميركي شهريًا، بينما في سنوات الأخير نعجز عن تأمين كلفة رأس المال وتسديد كافة المستحقات". ولدى سؤاله عن مدى قدرته على الاستمرار يجيب بـ"خلصت الحكاية" موضحًا: "لا أحد منّا سيبقى واقفًا على  أقدامه أمام جنون انهيار الليرة. وإذا استمر الوضع على هذا النحو من التدهور، لن تتجاوز مدة مقاومتنا الشهر حتّى نغلق محلاتنا ونعلن إفلاسنا ونعود إلى بيوتنا".

على بُعد أمتارٍ، ندخل محلّ De Quincey لبيع الأحذية والجزادين. نلتقي بصاحبته أمل الشيخ (49 عامًا) وحالها لا يقل سوءًا عن أحوالها جيرانها. "لقد ولّت أيام العزّ"، تقول، وتخبرنا أنّها توقفت عن استيراد بضائعها الأجنبية من الخارج منذ الصيف، وقد تضاعفت الأزمة لأنّ استحقاق دفع الفواتير آخر العام تعجز عن تسديده، لأنّ عملها مرتبط بالبنوك. فـ"نحن بعد فرض القيود المصرفية غير قادرين على إرسال التحويلات إلى الخارج، وفرق الدولار دمّرنا، والقدرة الشرائية تدهورت وقد فقد الزبائن ثقتهم بالليرة، وبالكاد نستطيع تأمين معاشات موظفاتنا". تؤمن السيدة أمل أنّ الحال الذي وصلنا إليها هو بسبب فساد السلطة والسياسات المصرفية، وتعتبر نفسها جزءًا منضويًا في الثورة الشعبية، "لأنّ قضيتنا محقّة"، تضيف: "أكثر ما يقلقني هو قدرتنا على الاستمرار، وقد نصل إلى مرحلة فقدان السيولة في السوق، ونحن لم نختبر أصعب من هذه الأيام".

لا مبيعات ونصف راتب
على تقاطعٍ آخر، نتجه نحو شارع عزمي، وهو الأقدم والمعروف تاريخيًا كأطول شارع مستقيم في لبنان، يربط منطقة التل بالميناء ويمكن الوصول عبره إلى كل الشوارع الرئيسة في المدينة، وقد حمل هذا اللقب نسبة إلى متصرف طرابلس عزمي بك أثناء الحقبة العثمانية. هذا الشارع الوسطي والأشهر في طرابلس، تتراصف على جهتيه عشرات محال الألبسة والأحذية، وكان مشهورًا بحيويته ونشاطه، متمتعاً بميزة خاصة في تناغم محاله مع أبنيته التراثية، يشهد منذ سنوات حالاً من الركود والشلل غير المسبوقتين، لكنّ أوضاعه تدهورت بشكل مضاعف بعد أزمة الدولار والشلل الاقتصادي العام في البلد. محمود (40 عامًا)، وهو موظف في أحد محال الشارع، يخبرنا أنّه أصبح يتقاضى نصف معاش، وأكثر من 50 في المئة من موظفي المحلات الباقية جرى صرفهم، وأنّ أيامًا تمضي من دون تحقيق مبيعات تؤمن كلفة تأمن المعاشات ومصروف المحلات ومستحقات الدين للتجار والبنوك.

وفي السياق، يشير رئيس جمعية تجّار شارع عزمي، طلال بارودي، لـ"المدن" أنّ المشكلة تتفاقم بشكل كبير على الصعيد التجاري، وانهيار الليرة وفقدان الدولار في السوق وحالة الهلع العامة وفقدان الثقة بالبنوك أحدث انكماشًا كبيرًا. يقول: "ارتفاع سعر صرف الدولار أدى إلى ارتفاع الأسعار بما لا يقلّ عن 30 في المئة، وكلّ محلات شارع عزمي دخلت في حال خطر، لا سيما أنّ 80 في المئة من التجار كانوا يعتمدون على تسهيلات من البنوك، لكنها توقفت حاليًا". وبينما تتكدس البضائع في المحلات من دون بيعها، "اضطر معظهم إلى صرف موظفيهم أو تخفيض معاشاتهم، ونسعى إلى التنسيق مع جمعية تجار بيروت لوضع حدٍّ للأزمة، وقد أغلق 35 محلًا تجاريًا من شارعي قاديشا ونديم الجسر في محيط عزمي".

الكساد والتدهور
في ساحة التلّ، التي تكتظّ فيها المحلات التجارية وعربات العصائر والخضار والصرّافين، يعلو القلق على وجوه المارة، وتحديدًا من يدخلون محلات الصيرفة. أحد العاملين في محل يبع للأحذية ولديه صندوق للصرّافة، يقول: "والله لازم يحبسوا كلّ هل الصرافين ويقفوهم عند حدهم لأن التشبيح أخذ مجده". تخرج سيدة من محل صرافة كأنّها تحكي مع نفسها، نسألها عن سبب تذمرها، تجيب مستنكرةً: "كيف سنستمر للعيش في هذا البلد وكلّ يوم نستيقظ لنسأل عن سعر صرف الدولار وقد بلغ 2070 ليرة؟ هل يريدون تهجيرنا أم قتلنا جوعًا؟".

لا تحتمل طرابلس مزيدًا من التدهور الاقتصادي. هذا ما يدركه أبناؤها الخائفين على ثورتهم ولقمة عيشهم في آنٍ معًا، وثمّة خشية كبيرة من استغلال الوضع الاقتصادي لضغط السلطة على الشارع، لا سيما في ظل "جشع" تجار المواد الغذائية والمواد الأولية. من جهته، يشير رئيس غرفة التجارة والصناعة توفيق دبوسي لـ"المدن"، أنّ ثمّة تقارير أسبوعية ويومية تصل للغرفة حول الوضع الاقتصادي في طرابلس بعد تدهور الوضع وانهيار الليرة. يقول: "في طرابلس الكبرى من البترون حتّى أقاصي عكار، هناك كساد اقتصادي تدهور منذ بداية العام 2019، وكلّ القطاعات تعاني من اختناق، في الصناعة والتجارة والزراعة، ولا يوجد أدنى رقابة على ارتفاع الأسعار، وتحديدًا في المواد الغذائية. وفي طرابلس، معظم محلاتها في عقود استثمار، وبضائعهم بالدين، ما دفع إلى خلق أزمة كبيرة بين التجار أنفسهم، والمواطنون يدفعون الثمن".

هذا، وكان دبوسي قد دعا الأسبوع الماضي إلى اجتماع موسع في الغرفة مع فاعليات اقتصادية، وشدد  على "أهمية مقاربة الأوضاع العامة بمسؤولية وبعقلانية وحكمة وضرورة أن تمسك الفاعليات الاقتصادية اللبنانية بملفات علمية قانونية دقيقة تتضمن رؤية وأفكاراً وطنية إنقاذية قابلة للتنفيذ". وكانت الغرفة قد دعت القطاع الخاص يوم أمس في طرابلس إلى الإقفال التام لكافة مؤسساته أيام 28 و 29 و30 من الشهر الجاري 2019، وذلك استجابة لدعوة الهيئات الاقتصادية اللبنانية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها