السبت 2018/05/26

آخر تحديث: 07:33 (بيروت)

مصرف لبنان: مغامرة تهدد الليرة

السبت 2018/05/26
مصرف لبنان: مغامرة تهدد الليرة
"سواب" سندات لتأجيل الأزمة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

يبدو أنّ الدولة اللبنانيّة مازالت في طور التعاطي مع المشاكل الماليّة القائمة منذ سنوات وفق سياسة شراء الوقت وتأجيل مفاعيل الأزمة الناتجة عنها، بمعزل عن المخاطر التي يحملها هذا النوع من السياسات. فقد أنجز كل من مصرف لبنان ووزارة المال عمليّة تبادل (أو "سواب") بسندات الخزينة، وهي المرحلة الأولى من عمليّة ماليّة استثنائيّة شبيهة بأهدافها وتأثيراتها النقديّة بالهندسات الماليّة الشهيرة التي قام بها مصرف لبنان في العام 2016.

تعزيز الاحتياطي
العمليّة المخطط لها من المفترض أن تجري على مرحلتين. في المرحلة الأولى (التي تم إنجازها) أصدرت وزارة المال سندات خزينة بقيمة 5.5 مليار دولار أميركي، قام مصرف لبنان بشرائها مقابل سندات خزينة بالقيمة نفسها بالليرة اللبنانيّة (نحو 8250 مليار ليرة لبنانيّة). بمعنى أبسط، تم استبدال الدين بالليرة بدين آخر بالدولار الأميركي بالقيمة نفسها، بموجب سندات خزينة يملكها المصرف المركزي.

في المرحلة الثانية، سيقوم مصرف لبنان بالاكتتاب بسندات خزينة بالليرة اللبنانيّة، بقيمة تبلغ 8250 مليار ليرة أيضاً، وبفائدة 1%، على أن تستحق بآجال تراوح بين 3 و10 سنوات.

العمليّة ستسمح لمصرف لبنان أوّلاً بتملّك سندات خزينة بالدولار الأميركي (يوروبوندز) بقيمة 5.5 مليار، وستكون قابلة للتداول في الأسواق الماليّة. أي أنّ مصرف لبنان سيكون قادراً على بيعها ورفع الاحتياطي من العملات الصعبة لديه بهذه القيمة. وهو ما يشكّل أحد أوجه الأهداف النقديّة من هذه العمليّات. أمّا من ناحية وزارة المال، فستكون قادرة على تحقيق وفر بقيمة 1.4 مليار دولار كانت ستقوم بدفعها خلال السنوات المقبلة. وستكون وزارة المال قادرة على تغطية الحاجات الماليّة من الاستدانة خلال هذا العام، من خلال الاكتتاب في سندات الخزينة.

أسباب قديمة ومخاطر جديدة
لدى مصرف لبنان أسبابه للقيام بهذه العمليّة الاستثنائيّة. إذ إنّ مجمل عمليّات مصرف لبنان الاستثنائيّة منذ العام 2016 كانت تتمحور حول استقطاب العملات الصعبة ورفع هذا الاحتياطي منها لديه. فالنموذج الاقتصادي القائم منذ التسعينات على استقدام التدفّقات النقديّة من الخارج لتمويل زيادة الودائع المصرفيّة، ومنها تمويل الدين العام واحتياطي العملات الصعبة، يعاني منذ العام 2011 من أزمة جرّاء عجز المنظومة على تحقيق الفوائض في ميزان المدفوعات.

العمليّات الجديدة، التي هي في الواقع هندسات ماليّة أخرى بشكل مقنّع، ستحقق لمصرف لبنان هذا الهدف للتعامل مع هذه المشكلة القديمة. لكنّها في الوقت نفسه ستحمل معها مخاطر جديدة، أوّلها ارتفاع نسبة الدين بالعملة الأجنبيّة جرّاء استبدال سندات الخزينة بالليرة بسندات خزينة بالدولار الأميركي. هنا سترتفع نسبة الدين بالدولار من 39% إلى 46% من إجمالي الدين العام، مع ما يعنيه هذا الأمر من تزايد الحاجة السنويّة إلى العملة الصعبة لدفع فوائد هذا الدين. بالتالي، تفاقم الحاجة إلى التدفّقات النقديّة الأجنبيّة.

من ناحية أخرى، سيضيف ارتفاع نسبة الدين بالعملة الأجنبيّة مخاطر أي تقلّبات في سعر العملة المحليّة. بمعنى آخر، فإن ارتفاع قيمة الدولار مقابل الليرة مستقبلاً سيضخّم حجم الدين بالنسبة إلى العملة المحليّة. كما أن استبدال سندات الدين بالليرة بسندات يوروبوندز بالدولار سيعني زيادة حجم الدين المتداول في السوق العالميّة، مع ما يعنيه هذا الأمر من تدويل للدين العام.

في الواقع، ستتمكّن الخزينة فعلاً من تحقيق وفر بقيمة 1.4 مليار دولار في خدمة الدين بعد هذه العمليّة، وذلك بفعل الفائدة المنخفضة للسندات التي سيكتتب بها مصرف لبنان. لكنّ الحقيقة تكمن في أنّ مصرف لبنان نفسه من سيتحمّل هذا الوفر، إذ إنّه سيدفع من أرباحه فارق الفائدة بين الدين بالليرة الذي سيقدّمه للخزينة، وأسعار الفائدة التي سيقوم بتحمّلها لسندات الخزينة بالدولار الأميركي. بالتالي، فإن الوفر المحقق لمصلحة الخزينة هو في الواقع كلفة مستحقّة على مصرف لبنان.

ومن جهة ثانية، تعاني سندات اليوبوندز اللبنانيّة في الأسواق العالميّة من أزمة تدنّي في أسعارها في السوق العالميّة، بفعل صعوبة القدرة على تسييلها. وسيضيف عرض سندات من هذا النوع بقيمة 5.5 مليار دولار مزيداً من هذه الصعوبات، مع ما يعنيه الأمر من انخفاض في قيمتها وارتفاع في الفوائد عليها للاصدارات الجديدة (بالتالي، ارتفاع كلفة خدمة الدين).

ضرورة الاجراءات الجذريّة
هذه الاجراءات كانت محل انتقادات متكرّرة من جهات دوليّة عديدة مثل الصندوق الدولي، نظراً إلى أثرها النقدي الكبير الناتج عن امتصاص كميّات كبيرة من العملة الصعبة من السوق.

ربّما المطلوب اليوم الالتفات إلى حجم المشكلة ومقاربة الحلول من زاوية إعادة النظر بالنمط الاقتصادي برمّته، الذي يضعنا في موقع الحاجة إلى هذا النوع من السياسات. والبداية لا بد أن تكون من النظر في طريقة التعاطي مع العجز السنوي في الميزانيّة وحجم التنامي في الدين العام، ومعالجة المسألتين من تعديل البنية الضريبيّة أوّلاً ورفع الواردات ثانياً. ولا بد من التفكير في الحلول المتاحة لجدولة الدين العام في المستقبل وفق خطط تعيد النظر في الفوائد المدفوعة من أجل تخفيضها.

أخيراً، كل ذلك يمر حكماً بمراجعة البديهيّات التي تسلّم بها المنظومة المشرفة على السياسات النقديّة والاقتصاديّة في لبنان، من أوّلها التسليم بالنمط الاقتصادي المكلف القائم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها