لم تشهد فرنسا شخصية سياسية تتسلق بسرعة إلى قصر الإليزيه بهذا المقدار من الانتهازية. المصرفي المغمور الذي جاء به هولاند إلى الحكومة من خارج الحزب الاشتراكي، تحول داخل حكومته خصماً للرئيس، الذي أصر على أولوية النمو على التقشف للخروج من الأزمة المالية، وقت كان موقفه ضعيفاً في مواجهة تيار معاكس تقوده ألمانيا أنجيلا ميركل. وتمكن ماكرون وزيراً للاقتصاد في 2015 من تأليب الحكومة ضد هولاند، وإمرار "قانون ماكرون" في مجلس النواب بلا تصويت، مستعينا بمادة من الدستور، تسمح للحكومة مرة واحدة في السنة إقرار قانون من دون أن يصوت عليه أعضاء الجمعية الوطنية. خضع هولاند لضغط تكتلات أصحاب الأعمال والمصارف، ووافق على القانون، تلافياً لإطاحة حكومة مانويل فالس. ثم استقال ماكرون من الحكومة وعينه على الرئاسة، بعد أن تيقّن من أن هولاند لن يحوز حقبة رئاسية ثانية.
التنافس على الشارع
أمّا "قانون ماكرون" الذي حاول الرئيس المضي به بقسوة مستغلاً استكانة الشارع وضعف النقابات والأحزاب، فلا يختلف توجهه عن نهج الليبراليين الجدد، ووحوش السوق الذين أسهموا أنفسهم في الأزمة المالية العالمية. فلسفة القانون خفض الضرائب على الثروات، وزيادة الضرائب على الفئات الوسطى والدنيا. بالإضافة إلى قانون العمل الجديد الذي يستبعد النقابات من عقود العمل الجمعية. ويقلص دورها في الاضرابات. وقد قطع ماكرون تعهداً للمفوضية الأوروبية بالوصول إلى 3% عجزاً مالياً إلى الناتج المحلي في نهاية 2018 لاستجابة المعيار الأوروبي. وبدا قبل كانون الأول الجاري، إنه ماضٍ إلى ما هو أبعد في سياساته المالية والاقتصادية. الشارع الفرنسي قال غير ذلك. وأصحاب السترات الصُفر غيروا المعادلة. النمو في 2018 قد يكون دون 2%. والعلاقة طردية بين معيار خفض الدين وبين عجز الموازنة. تقديرات المعهد الوطني للاحصاءات والدراسات الاقتصادية الفرنسي، تُظهر أن الدين العام الناجم عن تراكم العجز مدى سنوات، سيبلغ تريليونين و255.3 مليار يورو في الفصل الأول فقط من 2018، وبعجز 97.6 % إلى الناتج الداخلي. الأحداث الأخيرة في كانون الأول التي تستقطب فيه فرنسا أكبر عدد السائحين في العالم سيسهم في خفض النمو وازدياد العجز.
أصحاب السترات الصُفر لن يغادروا الساحة. تحولت مطالبهم سياسية إلى استقالة الرئيس. انضم الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى حزب "فرنسا غير الخاضعة"، بزعامة جان لوك ميلانشون والحزب الشيوعي، في محاولة لاسترداد نفوذ في الشارع.. وللتخفيف من الأصفر الفاقع المعادي للمهاجرين. ماكرون يحصد الآن نتائج سياساته الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة في فرنسا. هو الذي أضعف دور النقابات العمالية، واستدعى السترات الصُفر، وراح يبحث عمّن يقودهم ومن يكونون. وبات مكشوف الرأس في وجه الشارع الفرنسي بلا نقابات نظامية، شكلت معلماً من معالم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والانسانية في فرنسا على مدى عقود. ثم استفاق تحت ضغط الشارع ويرتكب خطأ تكتيكياً "أصفر فاقعاً" باستدعاء رؤساء النقابات العمالية للتشاور، قبل توجيه كلمته الأخيرة للشعب الفرنسي، ليسألهم دعماً لوقف التحرك في الشارع. وكان عليه الإقدام على هذه الخطوة بعد اندلاع الأحداث للتو، وتقديم تنازل للنقابات على مستوى قانون العمل أولاً، وإلغاء ضريبة الوقود. حصل الأمر متأخراً. وتمسّك بخفض الضريبة على الثروة التي استفزت الشارع وأمدّت أصحاب السترات الصفر بالدعم الشعبي. وقد ظهر هذا الدعم علناً من خلال وسائل الاعلام التي استطلعت آراء المواطنين في الشارع. ومن خلال الصحافة الفرنسية التي حملّ معظمها الرئيس مسؤولية ما يجري في شهر تسوق واستهلاك. أما أن يتوسل ماكرون النقابات العمالية لإطفاء الحرائق والوقوف في وجه الشارع، فكأنه يطلب اليها اطلاق الرصاص على رأسها واستخدام ذخيرة صادرها بنفسه.
حصاد التطرف
عاد ماكرون ليرتكب خطاً تكتيكياً آخر في سلسلة تراجعاته المرتبكة تحت ضغط الشارع. قرار بتجميد ضريبة الوقود شهوراً ستة. بعد أقل من أسبوع. تبعها بإلغاء الضريبة من أساسها. ثم بقرار زيادة 100 يورو على رواتب العاملين في القطاع العام وتعويضات البطالة. وحضّ القطاع الخاص على تحسين الأجور وحد الأجر الأدنى. خلت رسالة ماكرون إلى الشعب من إشارة إلى تغيير نهج أنتج الأزمة ومعها تيارات عصبوية يمينية متطرفة تطرف النهج الاقتصادي والاجتماعي الذي تبناه وزيراً ويحاول تكريسه رئيساً. حين تصبح دولة كفرنسا بهذا الغلوّ الطبقي وتدمير الطبقة الوسطى، لمحاباة أصحاب الثروات، وتعود عقوداً إلى الوراء في التعامل مع النقابات العمالية وتهميش دورها، فلا عجب أن تنبت فيها تيارات التطرف والعبثية والقومية العنصرية. ماكرون يحصد حقاً ما زرع.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها