السبت 2018/11/24

آخر تحديث: 00:10 (بيروت)

الأزمة المالية حقيقة.. ومؤتمر "سيدر" سراب

السبت 2018/11/24
الأزمة المالية حقيقة.. ومؤتمر "سيدر" سراب
الأكيد، وفقاً لطبيعة المشاريع والقروض، أنّها غير معنيّة بعلاج المشاكل البنيويّة (Getty)
increase حجم الخط decrease

يكاد لا يخلو تصريح سياسي، عن المشاكل الاقتصاديّة والماليّة الراهنة، من التأكيد على ضرورة المسارعة إلى إستكمال تنفيذ شروط مؤتمر سيدر، للمضي قدماً في الإستفادة من القروض التي نتجت عنه. وبهذا، يتم تسويق المؤتمر وقروضه، إعلاميّاً، على أنّه خشبة خلاص فعليّة في ظل الأزمة التي يواجهها لبنان، من دون أن يتعمّق البحث في قدرة هذه القروض فعليّاً على التعاطي مع عناصر الأزمة الحقيقية.


باقة القروض.. والعجز
"البرنامج الإستثماري الوطني للبنية التحتيّة"، الذي أتت به الحكومة إلى المؤتمر شمل ما قيمته 23 مليار دولار من المشاريع، مقسّمة على ثلاث مراحل، منها حوالى الـ11 مليار دولار للمرحلة الأولى، التي تشملها تعهّدات المؤتمر. لكن عمليّاً، معظم بنود البرنامج كانت عبارة عن مشاريع بنية تحتيّة متفرّقة، موجودة أساساً في أدراج الإدارات الرسميّة، توائم برامج إقراض دوليّة معروضة مقابل قرارات معيّنة. ودمجها ضمن المؤتمر لم يتناسق ضمن خطّة منسجمة ذات أهداف واضحة. والأهم أنّ القروض بصيغتها هذه، بعيدة جدّاً عن معالجة الأزمة الماليّة الراهنة، أو حتّى تبعاتها كما ينتظر كثيرون.

فالأزمة الماليّة الحاليّة تتركّز تحديداً في عجز ميزان المدفوعات المستمر منذ 2011، بإستثناء سنة واحدة هي 2016 التي شهدت الهندسات الماليّة المكلفة. ويجسّد هذا العجز، الذي يختصر صافي تبادلات لبنان الماليّة مع الخارج، عدم قدرة التحويلات الخارجيّة على تعويض العجز، الناتج من الفارق الكبير بين واردات لبنان وصادراته منذ سبع سنوات. وبينما يبتعد مؤتمر سيدر عن معالجة أي من المشاكل البنيويّة، التي أدّت إلى هذه الأزمة اليوم، والتي تتعلّق ببنية وطبيعة النموذج الإقتصادي في لبنان، يبدو أنّ تبعاته ستفاقم هذه المشاكل البنيويّة في المستقبل.

تعاظم الدَين
صحيح أنّ قروض المؤتمر ستنتج تدفّقات ماليّة معيّنة على الإقتصاد المحلّي، قادرة على الحد من أزمة التدفّقات الماليّة خلال فترة زمنيّة محدودة، وهي ستلعب بذلك الدور نفسه، الذي لعبته الهندسات الماليّة منذ سنتين، حين أمّنت تدفّقات خارجيّة محدودة القدرة على تأجيل بعض مظاهر الأزمة. لكن الأكيد أنّ هذه القروض ستبقى عاجزة عن معالجة الخلل الأساسي الذي سيستمر، بينما ستضاف الـ11 مليار، التي تتضمّنها جداول قروض مؤتمر سيدر في المرحلة الأولى، إلى الدين العام المتعاظم. مع العلم أنّ الدين العام بلغ 83.84 مليار لغاية أيلول الماضي، وإذا أضفنا هذه القروض برمّتها إليه سيوازي الدين العام حوالي ال183 في المئة من الناتج المحلّي (بلغت هذه النسبة 146 في المئة نهاية السنة الماضية، وتبلغ 154 في المئة وفقاً لأرقام الدين العام اليوم).

سوء الحلول
وبمعزل عن الشكوك في قدرة قروض المؤتمر على التعاطي مع الأزمة، ثمّة أسئلة أهمّ، حول طبيعة الحلول التي تقدّمها، مقابل حجم القروض الهائل هذا. فعلى سبيل المثال، في مجال معالجة النفايات، تتجه الخطط إلى المحارق بكلفة كبيرة، بدل الإتجاه إلى حلول الفرز من المصدر والتدوير، التي لا تحتاج هذا القدر من التمويل والأذى للبيئة. أمّا قطاع المياه الذي شكّل منذ البداية أولويّة قصوى للفرنسيين، فمعظم الـ4.8 مليار دولار، التي رصدها المؤتمر للقطاع، ستذهب لبناء السدود، التي يشكّك في جدواها الإقتصاديّة وملاءمتها للبيئة عدد كبير من الخبراء. مع العلم أنّ ثمّة ضغط واضح، للتعجيل في فتح باب استثمارات الشركات الخاصة، في هذا القطاع تحديداً، بالتوازي مع مشاريع البنية التحتيّة هذه.

شروط ملتبسة
وبينما وقع رهان الكثير من المتفائلين على الإصلاحات الموعودة، قبل القروض نفسها، ثمّة أسئلة كبيرة يجب طرحها في هذا المجال أيضاً. فإذا كانت الحكومة قد قدّمت إلتزاماً بتخفيض العجز في الميزانيّة العامّة، بنسبة واحد في المئة من الناتج المحلّي سنويّاً، على امتداد خمس سنوات، فالواقع يقول أنّ العجز في الميزانيّة تضاعف في النصف الأوّل من هذه السنة ليبلغ 3.05 مليار دولار، لغاية شهر حزيران الماضي، مقارنةً بـ912 مليون دولار فقط في النصف الأوّل من عام 2017. وبذلك يكون العجز قد إرتفع خلال نصف السنة هذه بـ2.13 مليار دولار، وهي زيادة تتجاوز نسبتها الأربعة في المئة من الناتج المحلّي، كما قدّره البنك الدولي لغاية السنة الماضية.

عدم الجديّة في التعاطي مع البنود المتعلّقة بفعاليّة الإدارات العامّة، وكلفتها، لا يقتصر على هذا البند. فوقف التوظيف في القطاع الحكومة لم يتم الإلتزام به، رغم وروده أيضاً في قانوني الموازنة والسلسلة. أمّا إجراءات مكافحة الفساد والشفافيّة وغيرها، فمازال لبنان بعيداً عن تحقيق أي تقدّم جدّي ملموس فيها، بالرغم من إقرار تشريعات كانت مطلوبة شكلاً، لتمكين الدولة من إستكمال شروط الإستفادة من قروض المؤتمر.

الأثر الاجتماعي
وبعيداً عن الإصلاحات المرتبطة بشفافيّة القطاع العام وفعاليّته، فالجزء الآخر من الشروط هو أيضاً محل إلتباس بحد ذاته، بمعزل عن إمكانيّة تنفيذة. فالمشاريع المعروضة تضمّنت، في جزء واسع منها، فرض شراكات مع القطاع الخاص، ضمن قطاعات النقل والمياه والطاقة والصرف الصحي ومعالجة النفايات والإتصالات، مع امتيازات لمستثمرين تصل مدّتها لغاية 35 سنة. وإذا كانت تجربة لبنان مع هذا النوع من الإمتيازات غير موفّقة في الماضي في معظم هذه القطاعات، فالأكيد أنّ طرح منح هذه الإمتيازات اليوم، لم يخضع إلى دراسات متأنّية للأثر الإجتماعي والإقتصادي، قبل فرضها كشروط مرتبطة بقروض، تعتبرها الحكومة عاجلة وذات طابع إنقاذي. فعلى سبيل المثال، هل من المجدي فعلاً أن يتجه لبنان إلى شراكة مكلفة للمواطنين مع القطاع الخاص لإستثمار موارده المائيّة، بدل العمل وفق خطّة بيئيّة، لوقف التعديات وتلويث مصادر المياه والحفاظ عليها؟

ثمّة الكثير من الأسئلة، التي تتمحور حول أثر قروض مؤتمر سيدر على جميع المستويات، بالأخص كون الحكومة نفسها لم تجرِ الدراسات، الكفيلة بتبيان الأثر الإجتماعي والإقتصادي لكل من هذا المشاريع. لكنّ الأكيد، وفقاً لطبيعة المشاريع والقروض، أنّها غير معنيّة بعلاج المشاكل البنيويّة، التي أدّت إلى الأزمة الماليّة المخيّمة بظلالها الثقيلة على لبنان. وبالتالي، فالرهان عليها هنا يعني إرتكاب خطأ في تشخيص طبيعة الحل المطلوب. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها