الأحد 2015/07/12

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

"ابن عروس" ليس مصرياً وليس شاعراً.. كلمات الأبنودى الأخيرة

الأحد 2015/07/12
"ابن عروس" ليس مصرياً وليس شاعراً.. كلمات الأبنودى الأخيرة
حاول الأبنودي تأكيد نظريته من خلال مقارنه ما سبق ونسُب لابن عروس المصري مع آخر تونسي بالاسم نفسه
increase حجم الخط decrease
كان الكتاب حجتي لمشاغبة "الخال" الأبنودي فى سنوات الهدوء الشعري، قبل أن تعيد الثورة شحن طاقته من جديد. فقد قضى عشر سنوات وربما أكثر باحثاً ومنقباً لينهي هذا الكتاب، حتى توقعته سفراً ضخماً وفوجئت بأنه كتيب صغير لا يتجاوز الـ150 صفحة، أبصر النور بعد رحيل صاحبه بأيام.

"الشاعر المصري ابن عروس.. ليس مصرياً وليس شاعراً"، كان الأبنودي يقصد من كتابه صغير الحجم، كبير القيمة، أن يثبت –كما هو واضح من العنوان- أن الشاعر المعروف باسم ابن عروس ليس مصرياً وليس شاعراً بل لم يوجد من الأساس، وهى قضية كانت محوراً لجدال عنيف بين الأبنودي والباحثين في الأدب الشعبي، والحقيقة أنها ليست مهمة سهلة على الإطلاق لأي منهما في ظل انعدام المصادر.

حاول الأبنودي تأكيد نظريته من خلال مقارنه ما سبق ونسُب لابن عروس المصري مع آخر تونسي بالاسم نفسه ومقارنه هذا كله مع مربعات سيدي عبد الرحمن المجذوب - الاسم الأشهر وربما الوحيد فى شمال إفريقيا الذي ينسب إليه فن "الرباعي" أو "المربع".

يبدأ الأبنودي كتابه الصادر عن هيئة الكتاب بنقد التسليم لسحر الكلمة المطبوعة، يقول إننا ما زلنا –مثل أهالينا- أسرى لتلك الكلمة "كان حين يحتدم حوار الاختلاف بيننا وبين أحد من أهالينا يصيح مستنكراً "دي جات فى الجورنان، ح نصدقك إنت ونكدب جورنان الحكومة؟". فمهما بلغت ثقافتنا إلا أن نصاً على ورق لا يمكن أن يطاول مصداقية الكلمة التي طبعت، فالنص مهما بلغ من هزال وقلة قيمة إلا إنه إذا طبع تحصن بأسر خاص تضيفه عليه الطباعة.

يتسرب صوت الأبنودي مع كل سطر من سطور الكتاب، بطريقته العفوية الجميلة، مضيفاً: "ما زالت هذه القداسة الزائفة تتسلل خفية وتمارس دورها القيمي، الذي تضيفه على النص، فنصبح نحن أهالينا الذين يصدقون إلى حد الإيمان "جورنان الحكومة" مع إن معظم الكذب –في بلاد كبلادنا- لا يتسرب ولا يفوح ولا يفعل فعله لولا وجود تلك المصادر".

تقوم الدراسة على كتاب يحمل اسم "ابن عروس" يحتوي على بعض من مربعاته الشعرية. والكتاب الذي يصفه الأبنودي بالسذاجة، يقص حكاية عن قاطع طريق كان يُغير على بيوت الأغنياء وممتلكاتهم، وفي ليلة اختطف عروساً ليلة عرسها وحين أراد أن يفعل بها الفاحشة خاطبته بمربع شعري عن النزاهة والأمانة والشرف فارتبك وتاب وأناب وأعادها إلى أهلها سالمة، وجلس هو يغزل على وزن "مربعها" الشعري مربعات حكم وأمثال عاشت إلى الآن، ولم يكن قاطع الطريق هذا سوى ابن عروس!

الكتاب الصغير –ابن عروس- تحول بعد ذلك إلى مرجع لكثير من الدارسين والمؤرخين، وبدأ يظهر في كتبهم ودراساتهم، أبرزها ما صدر لمحمود فهمي إبراهيم في الأدب الشعبي والذي اتكأ، كما يقول الأبنودي، على الكتاب الصغير الساذج ليحوله إلى حقيقة من حقائق الشعر الشعبي أو الشعر بشكل عام: "جذبته الكلمة المطبوعة وأوقعته فى حبائلها دون أن يسأل عن ذلك الذي سطر الكتاب، أو أن يبحث عن مراجع تؤكد ما جاء بالأوراق الهزيلة، ومحمود فهمي إبراهيم رجل موسوعي متعدد المواهب والعطاء فكيف اعتمد على وريقات الكتيب بكل ما جاء في القصة من "نخع" دون أن يبحث في مصداقية القصة الساذجة لذلك اللص الذي أنابه الشعر".

لا يلوم الأبنودي المؤرخ بل يلوم من أتوا من بعده فحولوا القصة إلى واقع، ليؤكدوا أن ابن عروس شاعر مصري حقيقي وكأنهم التقوه وحاوروه واستمعوا إليه "انتشوا بروعة الاكتشاف الزائف، ليحيلوا الرجل الوهم إلى أكثر شعراء مصر أصالة تجربة وصدق تعبير، وصفاء رؤية، واحتضاناً لا لبس فيه لضمير الوعي والإحساس الشعبيين، وربما اتخذوه مطعنا لإبداعنا الشعري".

أما ابن عروس الأصلي فهو تونسي، بحسب نسخة وحيدة من كتاب يملكه الأبنودي، بعنوان "ابتسام الغروس ووشى الطروس في مناقب سيدي أحمد بن عروس"، تأليف عمر بن علي الراشدي الجزائري، يتألف من 522 صفحة كلها حصر لمناقب الصوفي الكبير وكراماته. أما مربعاته فتنتشر في دراسات وكتب كثيرة ومن أبرز تلك المربعات وأشهرها "جميع البلاد شوليت/ حتى لسبته الحصينة/ أنا مثل "بنزرت" ما رأيت/ الوادي وسط المدينة"، وهو مربع رصين كما يقول المؤلف، رصانة تشي بشاعر محترف يجيد صناعته جيداً. الكتاب يرصد أيضا ملامح من حياه ابن عروس التونسي المولود في قرية في الجزيرة القبلية على مسافة خمسين ميلاً من تونس اسمها "المزاتين"، في وادي الرمل، ويستند عليها الأبنودي لتأكيد حقيقة وجوده، بخلاف المصري الذي يستند فقط على حكاية خرافية، فيقول: "إن شيخنا الحقيقي ابن عروس له محل ميلاد وله معاصرون وشواهد على وجوده، وبئر ومزار وأقوال رددت من بعده ومناقب رصدت وكل من جايله فى السوق القديمة بتونس رآه وعاينه وهو يرفع الأحمال التعجيزية ويسألون وأجابهم بكلام لا يفك طلاسمه سوى الزهاد والمتصوفة أو المجاذيب من أمثاله. بينما ابن عروس المصري يبدو وكأن حدأة اختطفته وطارت، أو صبت عليه حامضاً أذابه".

وبغض النظر عن نجاح الأبنودي أو فشلة فى إثبات وجهة نظره، فإن الكتاب يعتبر دراسة بديعة عن فن المربعات وهو الشكل الشعري أو الزجلي الذي يتكون من أربعة أشطر تتشابه قافيتا شطريه الأول والثالث من جانب والثاني والرابع من جانب، ومن ارتطام القوافي تتولد الحكمة التي هي سبب النظم. يقول الأبنودي إنه في بعض الأحيان تفلت قافية الشطر الثالث من الشاعر ولا تطابق أو توافق الشطر الأول، ربما بفعل الزمن والاستخدامات وتوتر الرواة، فيترك على هذا الحال، يحدث هذا في الشمال الأفريقي، لكن في مصر التي تحكي حتى الآن السيرة الهلالية بالمربع يصبح ذلك من النواقص الكبرى، ويعزى إلى ضعف الشعراء أو عدم قدرة على الحفظ من السابقين، وإن كانوا في بعض المربعات يتحايلون على التطابق أو التوافق بما يشبههما كأن يقول: "جاني طبيبي مع (العصر)/ وف إيده ماسك العصاية/ أصله طبيبي قليل (أصل)/ من خصمي يجيب لى الوصاية"، والمعنى أن الطبيب –ويعني به الزمان- الذي ينتظر منه إعفائي من أسقامي ورفع الجور عني، اتضح انه دنيء باعني لخصمي وجعله حاكماً على ووصياً.

بشكل عام يرى الأبنودي أن المربعات الحقيقة المستقرة بين الناس والتي تعتبر عصارة التجربة الإنسانية ومكابدات الإنسان الضعيف أمام سطوة الحياة وكفها العريضة الباطشة لا مؤلف لها، تنتقل مع السنين يلتقفها جيل بالوارثة ليورثها للقادمين. وفي الكتاب، يورد مجموعة من المربعات الليبية والمغربية والمصرية مع بعض الشروح في فصل من أهم وأجمل فصول الكتاب منها: "أصلي وأسلم على النبي الزين/ مدحت النبي العضم بطل صلاية/ قال النبي: قوم يا بلال يزين/ قوم يا بوبكر قيم الصلاية". وهو مربع مصري متكامل، فحين امتدح النبي ذهبت الآلام المبرحة التي كانت "تصل" فى عظامه، أما باقي المربع فهو لعبة قوافي، النبي الزين، ويا بلال أذن، وقم يا أبا بكر أقم الصلاية والفرق بين "صلاية" العذاب في الشطر الثاني و"صلاية" الشطر الرابع هو الفرق بين العذاب والرحمة: صليل العذاب وصلاة أبي بكر.

أخيراً، ورغم الأغراض العديدة التي احتواها ميراث المربع العظيم، ورغم تلاحق فيضه في الشمال الإفريقي بلا حدود، فلا تنسب المربعات إلى سيدي أحمد ابن عروس إلا في مصر! وكما يقول صاحب الكتاب: "لقد اخترعوا قصة ذلك الفارس الذي تاب لينسبوا المربعات المصرية إليه، ولو فكروا بعمق وأبعدوا عن أذهانهم صورة ذلك الفارس الكاريكاتوري لأعطوا الحق لصاحبه ولا أعنى بصاحب الحق ابن عروس، وإنما أعني ذلك الاتصال الحميم بين الشمال الإفريقي وصعيد مصر".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها