يروي الصحافي والكاتب القصصي، نجم الدين السمان، في فايسبوكه أنه "بمبادرة من محمد كرد علي، وزير المعارف ورئيس مجمع اللغة العربية في دمشق، أقيم مهرجان بمناسبة مرور ألف عام على ولادة أبي العلاء المعري، في دمشق ومعرة النعمان وحلب واللاذقية في أيلول 1944، برعاية وحضور رئيس الجمهورية شكري القوتلي، وشاركت فيه وفود تمثل سوريا ومصر والعراق ولبنان وفلسطين والأردن، إلى جانب اثنَين من المستشرقين، ومن أبرز المشاركين: طه حسين والجواهري وخليل مردم وابراهيم المازني وعمر أبو ريشه وسليم الجندي وآخرين، بالاضافة إلى المستشرقَين: الفريد غليوم وهنري لاوست.. الخ. ثم حاولت (وزيرة لثقافة) نجاح العطار، بعد حوالى أربعين عاماً، إعادة المهرجان بالتعاون مع علي عقلة عرسان في اتحاد الكتّاب، وقتها تلقيت مع الشاعر فؤاد م.فؤاد دعوة ليوم في المهرجان خاص بالأدباء الشباب، فذهبنا من حلب إلى معرة النعمان، وهناك كانت المفاجأة بأن ضيف الشرف في مهرجان أبي العلاء كان عمر الفرا.. فلما بدأ بإلقاء درره وسط تصفيق الحاضرين غادرت القاعة، وبينما كنت أشعل سيكارتي، خيّل إليّ بأن عظام المعري في قبره تصطك غضباً، فاقتربت من القبر..وهمست: لا تؤاخذنا يا أبا العلاء على ما فعل السفهاء منا".

نحسب أن سردية نجم الدين السمان القصيرة، تعطي إشارة عما آلت إليه الأمور في سوريا بين الأمس واليوم. وفي قضية الشاعر والفيلسوف المعري، صاحب "سقط الزند" و"رسالة الغفران"، يبدو أننا أمام جلجلة رمزية. فعدا عن انحدار مستوى الحضور الثقافي في مهرجانه، بعد اندلاع الثورة أو التمرد أو الاحتجاجات في سوريا ضد نظام الأسد، قُطع رأس تمثال المعري في إدلب بالتزامن مع حرق تمثال الأسد في منطقة الطبقة في محافظة الرقة، إذ تم إنزال هيكل التمثال كاملاً عن العمود الذي يحمله، وشُوهت الكتابات الشعرية على قاعدته. حطم المتشددون التمثال بوصفه واحداً من "الزنادقة". وقيل إنهم حطموه بتهمة الانتماء إلى آل الاسد رغم جهود كبيرة من مثقفي المدينة للتأكيد أنه لا علاقة للمعري بالساحل السوري، وليس أصلاً من عائلة الأسد، وبقي هناك من المسلحين مَن يصرّ بأنّ النظام لم يرفع تمثالاً له إلا لأنه من أجداد الرئيس بشار الأسد. وثمة من وظّف بيتاً من الشعر للمعري في الرد على الهمجيين الذين تطاولوا على تمثاله، يقول: "اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين، وآخر ديِّن لا عقل لهْ". اغتيل التمثال وسط المعمعة والقيل والقال، وضياع المسؤوليات وكثُرت الهمجيات والتشبيح والتعفيش وموت الثقافة.

المعري الذي اغتيل في مسقط رأسه وبلده، سرعان ما نُصب تمثال له في بلدة "مونتروي" في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس. ففي العام 2023، أنجز النحّات السوري عاصم الباشا، النصب التذكاري البرونزي بالتزامن مع الذكرى الـ12 للثورة السورية. وقالت منظمة "ناجون" إن الاختيار وقع على المعري باعتباره "مثالاً ناصعاً للمثقف الكوني الحر الذي لم يرتهن إلا لضميره الحي، وأيقونة انتظار السوريين للسلام والعدالة والديموقراطية في بلدهم"... وعدا هجرة المعري إلى باريس، كان حاضراً في وجدان السوريين المهتمين. ففي العام 2024، كتب ماهر الجنيدي: "فيما يلقون النظرة الأخيرة على جثمان الفقيد(المعارض رياض الترك) قبل أن يوارى الثرى، تساءلتُ لماذا وقع اختيار الناعين على بيتَي أبي العلاء الجميلين:
ولو أنّي حُبِيْتُ الخُلْدَ فَرْداً لَمَا أحبَبْتُ بالخُلْدِ انفِرادا
فلا هَطَلَتْ عَلَيّ ولا بأَرْضي سَحائِبُ ليسَ تنْتَظِمُ البِلادا
لا أبدّ أنهما أثيران على قلب رياض الترك الإنسان الزاهد المحبّ.
غير أنني أرى أن أقرب وصف لذلك العنيد الصلب المقدام، هو بيت طرفة بن العبد:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني.. عنيتُ، فلم أكسل، ولم أتبلّدِ"
وكتبت الباحث عدي الزعبي: "مدهشةٌ، كأنها بإلهام ماورائي، افتتاحية نعوة رياض الترك بأبيات المعري. لم يكن المعري ثورياً، ولم يكن رياض الترك متشائماً غارقاً في الماورائيات. لكن، تجمع الاثنين خصلةٌ لا مثيل لها: محبة تسع الكون كله".

ولم يبدل سقوط الأسد من محنة المعري، ففي بداية العام 2025 تداول نشطاء ووسائل إعلام صوراً تظهر تحطيم ضريحه في مسقط رأسه بمحافظة إدلب من قبل مجهولين.
والحال أن كثيرين يحبون كونية المعري، وكثرين تُغضبهم عقلانيته. أما ذروة المحنة فتمثلت في سخرية وزير الثقافة محمد صالح من طفل لأنه لا يعرف المعري. فأثار المقطع المصوّر المتداول لوزير الثقافة السوري، جدلاً واسعاً جعله عرضةً لسيل من الانتقادات. ولم ينته الأمر بإجابة الطفل الذي نفى معرفته بالمعري، بل استمر تبادل النظرات بين صالح والطفل، ما جعل الأخير يشعر بالإحراج لجهله بالمعلومة التي تعتبر معقدة بالنسبة إلى الأطفال السوريين في هذه السن.. بل في هذه المرحلة من تاريخ بلاد منهارة تُحرق فيه أوراق الكتب للتدفئة في الشتاء.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها