فكرة السفر إلى سوريا كانت أشبه بالمستحيلة، حلم قد يحدث في المنام، وبعد سبعة عشر عاماً من النأي والحسرة وعض الأصابع ها أنا في طريقي إلى دمشق، مزيج من الترقب والحذر. المكان الذي تجمد في الذاكرة والدم. صورة الشوارع والحارات وملامح البشر. همهمة وبكاء خفيض في الطائرة التي حطت رحالها في المطار.
بين زيارتي الأخيرة العام 2008، و2025، عمر مضى، ليس الألم وحده ولا جرافة الزمن التي أخذت كل شيء في طريقها، حتى ملامح البيوت تتشبّه بالشجر الذي بقي ولم يحترق! لم أحسّ بشيء، غشاوة أطبقت على عينيّ، وعليّ أن أتدبر أمر أخذ حقائبي بعد تفقد موظف الجوازات لأوراقي وختم جواز سفري بسرعة غير مألوفة، مرفقة بكلمة: "الحمد الله على السلامة"، ثم نحو قسم الاستقبال، وإذ بصوت يناديني، ويدَين مشرعتَين في هواء الصالة الرطب. أخي كان بانتظاري مع أختي وزوجها وولديهما، بقيت الغشاوة قوية ولم أستطع تجنب هذا العمى الجزئي المؤقت، ولا تجنبه حتى قطعنا في السيارة حدود "باب كيسان" و"حيّ الطبالة"!
باب شرقي المقوّس بدا واضحاً. البسطات تغطي جوانب الطرق والساحات ومداخل الحارات، حتى ونحن نخرج من مدخل العاصمة ناحية حرستا، بدت أقدم مدينة في العالم تخرج من كتاب مغبر.
ألتفت مثل تائه لا يدري أين يذهب أو يحط رحاله. على جانبي الطريق السريعة انتشرت مكاتب ومعارض السيارات الجديدة والمستعملة القادمة من الصين وتركيا. نقطع معلولا، ومن ثم دير عطية بدون تمثالها الشهير الذي كان يطل عليها من تلة قريبة لمدخل المدينة. وبدت النبك مثلما تركتها نادرة الشجر، وبملمح صحراوي.

ندخل حمص التي انتشرت الحواجز في مفارقها. بدا الإنهاك واضحاً حتى على حجارة أرصفتها، أبنية موقعة بالرصاص والصدأ ووجوه مذهولة يكسرها أي شيء. أريد للمسافة أن تصغر، ومدينة عبد الباسط الصوفي ذاهلة ونصف مدمرة. كأني لم أزرها في حياتي. حجر صغير فوق صفحة المياه، الدوائر التي تقع فيها الطيور. جسد ممدد فوق سقالة، هكذا بدت لي المدينة. سألتُ السائق إن كان باستطاعته المرور بالخالدية، فرفض بحسم، قال لي أن الحي عبارة عن أنقاض. مازلت أتمسك بذاكرة حادة لتفاصيله ولطفولة مثل شريط الضوء في بيت مشيد من الحجارة البركانية مع حديقة فيها شجرة أكيدينيا.
كل هذه الأطلال التي تتهاوى تحت الجلد، وكل تلك الروائح يصعب عليّ التخلص منها، وكلما قطعت السيارة أميالاً إضافية أعرف تماماً أنني في امتحانٍ قاسٍ مليء بالاحتمالات مع أشياء وقطع غيار الماضي التي تركتها في ثلاثة مدن: حمص، سلمية، ودمشق. ثم وصلنا إلى الحي الذي أطبق على آخره بوجوه أعرفها، وجوه مكدرة ومع ذلك تبتسم، أنظر إليها فاتحاً ذراعيّ تالفاً وغير مصدق أنني هنا، عدتُ، بينما سرب من الطيور يحلق على السطوح البعيدة.
الحرية ما زالت "ع الباب"
أمي الثمانينية والأخوة والأقرباء والجيران في صورة فوتوغرافية نادرة. بدا الأمر لي مربكاً مع كل هذا الحنان النادر. أريد لتلك الطمأنينة أن تعود لروحي، وأن أصغي لتلك الأصوات التي كنت أسمعها في الفجر، أرى كل شيء من وراء واجهة زجاجية، وكأن الأشياء كلها التي أبحث عنها تختبئ خلف الجدران.
لم أجد أبي أيضاً في البيت، مع أنني أحسستُ بظله على السرير الخشبي. قالت لي أمي أنه بقي ممددّاً عليه لأكثر من ثلاث سنوات بسبب الجلطة الدماغية التي داهمته سنة 2012، والطفل الذي تحت جلدي كبر، وتلك الضحكة التي في قلبي انطفأت إلى الأبد. أنظر إلى الحيّ الذي لعبتُ وركضتُ في حواكيره وزواياه فلا أرى شيئاً، حتى جدران البيوت التي أعرفها لم تكن هناك. تغيرت الطرق والساحات، وتمددت المدينة الصغيرة التي على أطراف البادية، وازدحمت في الظهيرة إلى درجة الاختناق. لا أظن أنني أخطأتُ في القراءة، مع ذلك ظل كل شيء يتنفس ولو قليلاً، وأي محادثة صريحة مع أي كان في البلاد الخارجة للتو من هدنة موت طويلة. بقي الكدر علامة استثنائية، فالحرية التي كانت تقف وراء الباب ظلت واقفة وراءه.

منتصف النهار وما زلتُ شارداً، يا للمصادفة، كمثل نظرة الوداع الأخيرة، أهرب، و كدتُ أموتُ بسبب الحنين، أحد أندر الأمراض على ما أظن، شُفيت منه وعليّ الآن أن أحرق ألبوم الصور وأرميه في سلة المهملات.
أمي التي تركتها في أول ستينياتها هي الآن في الثمانين، وبالكاد وقفت كي تستقبلني وتضمني، على كتفها تمنيتُ لو تجمدتُ لمئة سنة أخرى. هلّلت لي وغنّت "شروقي"، وقفتُ لبرهة في البيت الذي تركته طيلة هذه السنوات، وكحمّال على ظهر سفينة بين الحياة والموت وقفتُ مجدداً من دون تردد هنا في حديقة البيت منبهراً لقدرة هذه الأرواح على تحمّل الشظف وقلة الحيلة وكل شيء، مثل الجنود العائدين من الحرب مع مساحيق قليلة كي تشفى الأعماق، الضحايا، المرضى المبتسمون، الأجساد الناجية من القنص والصواريخ، الساهمة التي تذوب لأي كلمة. أيام وسنوات لاهبة حرقت الأخضر واليابس. الضوء الوحيد في نهاية النفق يبقى ذلك المسكين الذي نسميه في القواميس: "الأمل" مع الفراغ والمرارة ستتلاشى، الطبيعة والثقافة والجغرافيا والتاريخ، فعلماء الآثار بدلاً من التنقيب عن قطع الفسيفساء، لن يعثروا سوى على المقابر الجماعية المموهة في محيط المدن وحدود القرى.
أقف أمام المرآة هناك فلا أرى الشخص الذي كنتُه. فقط ذلك الكائن الذي يبحث عن البيت الضائع ويشتاق إليه. مع أن هذا الشوق ارتبط بالمهاجرين، والنظر إلى الماضي قد يشلّكَ إلى الأبد. فما بال المقيم الذي لا بيت له أيضاً. كل ما أعرفه تغيّر، وما أحمله على كتفيّ مجرد أنقاض لتلك الذاكرة التي لا ترحم! لم أحاول طمس التواريخ هذه وتحويلها إلى أساطير صغيرة. المظهر الثقافي والسياسي للشوق، الغربة، والعاطفة الوحشية، وفكرة العودة إلى الزقاق الذي أتبتُ منه، جميعها مجرد أدوات لكل هذا اليأس، وفخاخ مصطلحات.
كبروا بشكل لا يصدّق
أنظر في وجوه أخوتي وأصدقائي الذين لم يغادروا أيضاً، كبروا كثيراً بشكل لا يُصدّق، والذكريات صارت مثل أشياء معروضة في سوق السلع المستعملة. أتعثر وأندم. أمي كانت تريدني أن أذهب إلى بيروت خوفاً عليّ. مع أن الخوف لم يغادرني طيلة حياتي.
من أين أنت؟! وفي أي البلاد تحب أن تموت؟ بدت الكلمات والصور والغربة الوجودية والتجاورات اليومية بين مشاهد الأمس والآن مهمة مستحيلة مثل مسألة إيقاظ الموتى من قبورهم.
تعرض كل شيء للدمار الشامل، وبمعنى آخر للمحو، بيوت لأهلها تمت تسويتها بالأرض، أو بقي حجارة بعضها وجدرانها شاهداً على أنفاسهم التي تركوها وراءهم، نوافذ من دون شبابيك، مفتوحة كفراغ في جمجمة. رأيتُ من نافذة السيارة التطبيقات المثالية لكل ذلك. التوحش الذي تم فيه كل هذا الأمر يصعب شرحه، فالتربة المريضة التي ولد فيها هؤلاء تكاد لا تشفى. نوع من السلالة اللاإنسانية كانت تنتشي لسماع الصراخ الآتي من أقبية التعذيب. بالوعة الأحقاد التي أتوا منها كانت كافية لمعرفة الطريقة التي كانوا يفكرون بها. نظرة طويلة ثابتة على المناطق السكنية. أطلال لا تزال قائمة في أماكنها، شاهدة على الدم والمرض والجوع. حتى إن هناك أنواعاً من الطيور اختفت.
تغيرت أصوات من عرفتهم، النبرة والملامح والظلال. نظرة خاطفة إلى الجهة الأخرى. سيكبر أطفالهم. مع ضخامة مسرح الأحداث سنة 2011، بدوا لا يأبهون لما قد يحدث، جيل كامل ولد من العدم والخوف وهدير الرصاص وانعدام الكهرباء ووسائل التدفئة، حتى الحصول على رغيف الخبز كان مؤلماً ومستحيلاً. كانوا الضمير الحي وتطفرُ الدموع من أعينهم حين يضحكون، ولا يبحثون عن مكان آخر للعيش.
في البيت أتَلَمَّسُ كتبي القديمة، مثل لقى أثرية يكسوها الغبار مع لوحات وصور عائلية مؤطرة، متحف حياتي الهائل، وعلى حواف النوافذ التي لم يطرأ عليها أي تغيير. في الحيّ الذي بصعوبة بالغة بقي شيء منه في ذاكرتي، الصورتان لا تتطابقان، كنتُ أزور مكاناً آخر، حتى حين لهفتي لرؤية باب بيتنا ولعظام روحه المسننة، وللتراب الذي دفنت تحته جسدي الميت وقلبي ويديّ، ظلوا هناك، حتى إنه لم يحدث شيء سوى أنني مشتاق لذلك المنزل الذي لم أجده.
آتٍ من عطارد
تعرّفت على عائلتي من جديد، ظهرتُ لها من ألبوم الصور فجأة، حقيبتان يدفعهما الرجل الآتي من كوكب عطارد، ثم سيقع على أكتاف كثيرة ويبكي من دون أن يتذكر اسمه أمام الباب.
صديقي عبدالله ونوس ينادي كلبه بـ"ساباتو" نسبة لاسم الكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو، بأعلى صوته حين دخلنا باب مزرعة شجر الزيتون التي تخصه، يعانقه ويقبله: "اشتقتُ إليكَ ساباتو، ملاك الجحيم"، ثم يسرد لنا بأسلوبه مغزى رواية "صحراء التتار" للكاتب الإيطالي دينو بوتزاتي، وتراجيديا جيوفاني دروجو، وهو يحرس القلعة في الصحراء، ذكرتني بأجواء رواية "دون كيخوته" لسرفانتس، مزيج من أوهام البطولة ومصير الفرد الذي يؤدي هذا الدور. يسرد لنا قصصاً وحكايات بحضور ابنه ناصر ورهام القطريب وزوجها الطبيب حسن خنسة مع ولديهما، فاضل حسينو وعبد الكريم ونوس ومصعب الجندي وابنته زهّار الآتية من ألمانيا.

طارق الشيخ خضر أراه للمرة الأولى بلا الكاميرا، ساهماً مثل ريح خفيفة. أمين الصالح وأغيد الحاج صديقان من أيام الدراسة وملاعب كرة القدم في البرية. أما عمار شاهين فكان يُدخّن بشراهة و كأنك تقرأ لبرهة ما الذي يدور في ذهنه، بقي على مودته وألفته ويحبه الجميع. ثم يُخبرني كلٌّ من حسان وردة وكمال حمودي، أن الأصدقاء لم يلتقوا لسنين خَلَت إلا لماماً، وأنه من المستحيل الآن استرجاع تلك اللهفة التي ميّزت أسباب هذه الصداقة، نعود إلى بيوتنا آخر النهار ثم نسقط في أسرتنا ذلك السقوط المدوّي، ولا يشعر بنا أحد.
نستعيد أنا وأسامة الجندي وفدوى سيفو وسعاد القصير وأحمد عيسى وفراس صيوم، ما كنا عليه في سنين منصرمة كحطام مبنى سقفه على الأرض، والأكثر حداثة من ذلك مصائرنا وعدم جدوى تذكّر أي شيء له علاقة بها. خلال مكالمة، نتفق أنا وفراس الضمان على لقاء لن يحدث.
طريق العودة
مكثتُ في دمشق ثلاثة أيام فقط، بين المدينة القديمة والحارات التي امتدت بين الصالحية وشارع العابد والبرامكة وباب الجابية والقيمرية وساحة الشهبندر وركن الدين، ودُمر وقدسيا والمزة.. وقبل مغادرة سوريا بيوم واحد، سألتقي في مقهى الروضة حول طاولتين بخليل صويلح وخليل درويش "سنترال دمشق"، أطلقتُ عليه هذا الوصف، والذي بسببه حدث هذا اللقاء مع سوزان المحمود وغادة الحسين وباسمة الأسعد وزوجها راجي إلياس وحسنا السامح وحبيب البرازي وسوسي بدرسيان، ورولا بغدادي. صدفة لم أتوقعها جمعتني أيضاً بمحمد فؤاد الذي كان برفقة زوجته ربيعة البرازي ويعرب العيسى، وناديا حلمي، إلى محمد جمال باروت، لم أره لأكثر من ثلاثين عاماً، ذكّرته بذلك، وكان يجلس مع صديق له على طاولة مجاورة، ليقول لي وهو يبتسم: لقد كبرنا كثيراً! لم يتسنّ لي لقاء معظم من أعرفهم، الوقت فقاعة صابون، سوء الحظ والارتباك من كلمات الوداع، تركتهم ورائي وروحي كالنبات تحوم في المكان الذي كنتُ لا أغيب عنه لأكثر من يوم أو يومين.
حلم تمنيتُ لو تجمّد قليلاً. حاولتُ جاهداً أن أستعين بتلك الذاكرة الموحشة، تركنا على جدرانها صورنا وأصواتنا التي تقشرت مثل دهان بيت قديم، لكن بلا جدوى!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها