الإثنين 2025/06/09

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

إنقاذ مكتبة فيصل دراج بمخيم اليرموك

الإثنين 2025/06/09
إنقاذ مكتبة فيصل دراج بمخيم اليرموك
فيصل دراج
increase حجم الخط decrease
لا حياة للكتب والمكتبات في الحرب، سواء تعلق الأمر بسوريا أو غيرها من البلدان. لا يراعي المتحاربون، عادة، المرافق الثقافية. وكثيراً ما تعرضت المتاحف ومواقع الآثار للتخريب والنهب. وكانت حرب الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، إحدى أهم أشكال الانتهاكات، التي لم يتم تفسير أسبابها، حيث تركت القوات الأميركية التي دخلت بغداد المجال مفتوحاً لعصابات من الأشقياء كي تنهب كل ما خف حمله من المتحف الوطني، وبذلك أصابه ضرر كبير، وسُرق الكثير من القطع الفنية التراثية.

لم تسلم الآثار والمرافق الثقافية بسوريا من أعمال النهب والتخريب، التي حصلت على نطاق واسع في فترة ما قبل حروب الأعوام الماضية، وخلالها. وهناك اتهامات لعدد من المسؤولين وضباط النظام السابق. وسهّل من ذلك أن سوريا بلد غني جداً على مستوى الآثار الموجودة في عموم الجغرافيا السورية، وهي تعود لعهود بعيدة، بعضها يصل إلى الألف السابع قبل الميلاد. وقد قام تنظيم داعش بتدمير جزء من آثار تدمر، وأعدم عالم الآثار خالد الأسعد، لأنه رفض الكشف عن مواقع أثرية. وحديثاً، حاولت عصابات منظمة سرقة المتحف الوطني صباح سقوط النظام، في الثامن من كانون الأول الماضي، مستغلة حال الفوضى الأمنية التي سادت في العاصمة، قبل أن تصل قوات عملية ردع العدوان، لكن حراس المتحف صدوهم، واستخدموا الأسلحة الرشاشة لطردهم.

هناك حكايات كثيرة عن الضرر، الذي لحق بالثقافة خلال الأعوام الماضية، وغالبيتها ليست متداولة على نطاق واسع، ولم يتم الحديث عنها أمام الإعلام، سواء بدافع الخوف، أو أن الوسط العام يعتبر الحديث عن الخراب الذي أصاب الثقافة ضرباً من الترف، أمام ما لحق بالشعب من تشريد وتهجير وتدمير لمدن بأكملها، ويشهد على ذلك محيط دمشق، فحيثما اتجه المرء خارج مركز المدينة وجد دماراً يفوق الوصف، لكن هذا لا يمنع من الحديث اليوم عن كل ما حصل. وعلى الذين يحتفظون بحكايات وتفاصيل، أن يفرجوا عنها، عسى تساعد في إعادة النهوض بالثقافة.

من بين الحكايات المهمة التي تستحق أن تروى، واحدة تتعلق بإخراج مكتبة الناقد الفلسطيني فيصل دراج من مخيم اليرموك في دمشق، وذلك بعدم خرج منه المقاتلون وصار تحت سيطرة النظام والروس والإيرانيين العام 2018. وهي تضم ما يزيد عن 10 آلاف كتاب، جمعها عبر حوالي 40 عاماً من القراءة والدراسة والبحث، بعضها باللغة العربية، والبعض الآخر بالفرنسية والإنكليزية، وبعضها ثمين جداً، يضم موسوعات وكتباً قديمة وأخرى ممهورة بإهداءات لكتاب كبار عرب وأجانب.

كانت المكتبة موجودة في المخيم، داخل منزل العائلة، الذي يتكون من ثلاثة طوابق. بناه الوالد، وسكنت فيه العائلة كاملة، وكان لفيصل وأسرته أحد البيوت ومساحة خاصة بالمكتبة. وقبل بدء تدمير المخيم بالطيران الحربي الروسي بهدف إزالته من الوجود نهائيا، حصلت عمليات سرقة قامت بها قوات "الفرقة الرابعة" التابعة لماهر الأسد. ودرج السوريون على تسمية ذلك الفعل المشين بـ"التعفيش". وهو يتم على مراحل، تبدأ بنقل العفش من البيت، ومعه الأدوات المنزلية، البرادات، الغسالات، المكيفات، الأبواب، النوافذ، الحمامات، وبلاط الأرضية.

حينما وصل مروان، شقيق الناقد، إلى البيت، وجد المكتبة على ما هي عليه، لم تتعرض للضرر، ولو تأخر أياماً أخرى، لربما عرفت طريقها إلى النار، لأن الكتب صارت حطباً للمدافئ في الشتاء، بعد انعدام الوقود والحطب، وتحول الناس إلى حرق الكتب من أجل اتقاء برد الشتاء. وعندما رآه الضابط الذي يقوم بتعفيش المنزل وهو برتبة رائد، استغرب وجوده هناك، لأن دخول المخيم كان ممنوعاً على سكانه، وتم اغلاق طرق الدخول إليه، وتسليمه إلى الفرقة الرابعة كي تقوم بنهبه، ومن ثم سيقوم الطيران الحربي الروسي بتدميره كلياً.

سأله الضابط كيف دخل، وما سبب وجوده في المخيم. فقال له أنه وصل إلى المكان بالتفاهم مع حرس أحد المداخل، وأن البيت الذي ينهبه هو منزل أهله، فلم يكترث أو يتأثر، وواصل هو وجنوده العملية. وهنا رمى له بفكرة مغرية وهي، أنه يريد تفكيك المكتبة ونقلها خارج المخيم. وحصلت مساومة تم الاتفاق في نهايتها على ألف دولار، وبالفعل قام الضابط وجنوده بنقلة أولى، وبقي قسم آخر، وأخذ الضابط يطلب ألف دولار مقابل كل نقلة، وتطلب ترحيل كامل المكتبة بخمس نقلات.

هناك حكايات أخرى عن مكتبات اختفت من بعض البيوت، التي تم الاستيلاء عليها بعد تهجير أصحابها. وليس من المعروف الطريقة التي تصرف بها السكان. وعاد البعض إلى بيته بعد سقوط النظام، ووجد أن اثاث المنزل على حاله، بعضه تعرض للتلف بفعل مرور الزمن، لكن الكتب اختفت من البيت. هناك أكثر من رأي حول الأمر. البعض يرى أنه تم بيعها أو اهدائها، والبعض الآخر، يعتقد بأنها تحولت إلى حطب للتدفئة.

مكتبة الناقد فيصل دراج نجت من الاحتمالات كافة، وباتت في منزل شقيقه في ضاحية قدسيا القريبة من مشروع دمّر، لتسجل واحدة من بين روايات الحرب والآثار التدميرية التي تلحقها بالثقافة.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها