أقامت "غاليري آرت أون 56" (بيروت - الجميزة، شارع يوسف الحايك) معرضاً للفنانة ليلى داغر، تحت عنوان "حوار غير متوقع" -Unexpected Dialogue. يضم المعرض أعمالاً كثيرة من حيث العدد، وذات مقاسات مختلفة، ما استدعى، وبحسب ما تقتضيه ضرورات العرض، إدراج الأعمال صغيرة الحجم ضمن مجموعات، مما ساعد على تحسين شروط التلقّي، ومنحها بعداً بصرياً واضحاً.
إذا ما تتبعنا ما يدور في الساحة الفنية اللبنانية، وما تقدّمه لنا صالات العرض في الوقت الراهن، لن تكون صعبة ملاحظة أن المشهد الطبيعي يحتل مكاناً وازناً من ضمن ما نراه معارض في شكل عام. وإذا كانت مقاربة هذا المشهد، خلال زمن مضى، قد حملت الكثير من النقاط المشتركة لدى بعض الفنانين، فإن المقاربات القائمة خلال الزمن الحالي صارت على درجة متقدمة من التنوّع، وصارت مدعومة بمزيج أسلوبي لم يعد من الممكن نسبه، في شكل قاطع، إلى هذه المدرسة أو تلك.
إذا كنا نجول في الطبيعة ونُدرك، بدرجات متفاوتة من الانتباه، الأشجار والماء، والتلال والمنازل، والتحولات التي لا تنتهي للضوء والغيوم، ونتأمل هذه الزاوية أو تلك في آنٍ واحد، فإن ذلك ما زال غير كافٍ لنُدرك أننا نرى "منظرًا طبيعيًا" أو "مدينياً". من أجل الوصول إلى هذه الغاية، فإن هذا المحتوى الفريد لمجال الرؤية تحديدًا لم يعد يأسر عقولنا، سوى إلى حد معيّن. إذ يبدو أن من الواجب إدراك البعد الكامن وراء العناصر، ككلٍ جديد، ووحدة جديدة، غير مُقيّدة بمعانيها الخاصة، ولا مُركّبة آليًا في مجموعها. وإن لم نكن مخطئين في حكمنا، فنادرًا ما خطر في بالنا أنه لا منظر طبيعياً عندما تتجاور جميع أنواع الأشياء على قطعة من الذات الأرضية، وتُرى بسذاجة. أما بالنسبة للعملية "العجيبة" ذات الطابع الروحي التي، مع كل ذلك، تُولّد المنظر الطبيعي أو المديني، فهو ما تحاول ليلى داغر تفسيرها، كما نعتقد، في معرضها الحالي.

فالعناصر المرئية في ركن من أركان لوحة الفنانة تنتمي إلى "الطبيعة"، ربما مع بعض أعمال الإنسان المدمجة فيها، حين نرى منظراً مدينياً بيروتياً، تخترق جدران عماراته أبواب ونوافذ، أو من دونها. وهي، في الواقع، ليست تخطيطات شوارع بمتاجر وسيارات، فهذا لا يجعل هذا المكان منظرًا طبيعيًا بعد. إن مصطلح "الطبيعة" يدفعنا لمحاولة فهم السلسلة اللانهائية للأشياء، والولادة والفناء المتواصلين للأشكال، ووحدة الوجود، المعبّر عنها من خلال استمرارية الوجود المكاني والزماني. أما من الناحية الأسلوبية، فيمكن القول إن أعمال ليلى داغر تقع، وبحسب النهج الذي اتبعته، في موقع وسطي بين التمثيل والتجريد، من دون الغوص الكامل في أحد الاتجاهين المتناقضين و"المتصارعين"، منذ ولادة الفن اللاتمثيلي في العقد الثاني من القرن الماضي.

وعندما نسمي واقعًا ما "طبيعة"، فإننا نشير بذلك إما إلى جودته الداخلية، أو اختلافه عن الفن والخداع، وكذلك عن المثالي والتاريخي؛ أو إلى حقيقة أن هذا الواقع يعدّ الممثل الرمزي للكائن الكلي المذكور أعلاه، وأننا نسمع فيه هدير تدفقه. "قطعة من الطبيعة" هي، في الواقع، عبارة تحمل تناقضاً في المصطلحات، فالطبيعة لا تتكون من أجزاء - إنها وحدة الكل، وبمجرد فصل جزء منها، فإن هذا الأخير لم يعد طبيعة بالكامل، لأنه لا يمكن اعتبارها كذلك إلا داخل هذه الوحدة اللامحدودة، مثل موجة من ذاك التدفق الشعوري العالمي الذي نسميه الطبيعة. هذا الأمر نلاحظه، على سبيل المثال، في أعمال عديدة اعتمدت فيها داغر مقاسات مستطيلة، شبه بانورامية من حيث المردود البصري، وكأنها شاءت القول إن رؤية المشهد في كليته يختلف تماًما عن رؤية شرفة منزل عُلقت على درابزونها سلة من الزهور، أو وردة في حديقة، بصرف النظر عن أن العمل على عنصر واحد ضمن مجموعة ليس على تلك الدرجة من السهولة التي يتصوّرها البعض.
لكن، هل يجب أن نتساءل أكثر: ما القانون الذي يُحدد هذا الاختيار وهذا التجميع؟ فما نُسيطر عليه، على سبيل المثال، بنظرة سريعة أو ضمن أفقنا اللحظي، ليس المنظر الطبيعي، بل مادته على الأكثر، كما أن مجموعة الكتب المتجاورة لا تُشكل "مكتبة" بعد، بل تُصبح كذلك بعد حذف أو إضافة مجلد ربما. الصيغة الشعورية التي تلجأ إليها ليلى داغر هي التي تُولّد المنظر الطبيعي في حد ذاته، وهي، للمناسبة، لا يُمكن تحديدها بهذه البساطة، أو حتى لا يُمكن تحديدها من حيث المبدأ على الإطلاق. إن مادة المنظر الطبيعي التي تُنتجها الطبيعة الخام متنوعة للغاية، ومتغيرة من حالة لأخرى، لدرجة أن وجهات النظر والأشكال، التي تُشكل، مع هذه العناصر، وحدة الانطباع، ستكون هي الأخرى شديدة التباين.

من هذا المنظور الأوسع، يمكننا أن نبرَّر تفسيرنا للمناظر الطبيعية انطلاقًا من الأسس الجوهرية التي تُشكِّل صورتنا عن العالم. فعندما نرى منظرًا طبيعيًا لدى الفنانة، لا مجرد مجموعة من الأشياء الطبيعية، يكون لدينا عمل فني في طور النشوء، كما نعتقد. إن أعمال داغر تترك لدينا هذا الانطباع من حيث ولادة الشكل والعمل عليه. فالمساحات اللونية هندسية في المشهد المديني، كما هي طبيعة الحال، في حين تبتعد قليلاً عن الهندسة في مشاهد أخرى غير زاخرة بالتفاصيل، لكنها، في مجموعها، مسطّحة عمداً، ولا ترنو إلى تفعيل الناحية التمثلية المحضة، بل إلى خلق انطباع معين. في هذه الحال، سنرى أنفسنا في مواجهة انطباعات كثيرة من نوع خاص، بل إن رؤية داغر كانت أضفت على الشكل الفني حيويةً ونشاطًا من شأنه أن ينتقل إلينا، وأنه، إذ يكون قادرًا على الوصول إلى هذه الدرجة من الإبداع، فإنه ينبض بالرغبة الأصلية لدى الفنانة في صناعة مشهد مختلف من حيث البنية واللون.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها