بعد سلسلة من 11 مقالة ضمن ملف "لحظات سوريا الفارقة...قبل الأسد"، هنا الحلقة الثانية عشرة عن سوريا الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، والتي خرجت من مرحلة الانتداب الفرنسي لتتعثر بالانقلابات العسكرية في طريق بناء استقلالها المستجد.
أتاح الشيشكلي، أول الأمر، للسياسيين أن يتحرّكوا وكأن المناخ طبيعي، وكان الصراع القائم بين الأحزاب خلالها يدور حول اتجاهين؛ اتجاه حزبي حرص على إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، واتجاه آخر أراد إعادة عهد القوتلي.
وبناء على هذا الانقسام تشكّلت جبهة مكونة من الحزب الوطني والحزب التعاوني الاشتراكي والحزب الجمهوري الديموقراطي الذي تشكّل منتصف العام 1950 من مؤيدي القوتلي، أصدرت هذه الجبهة بياناً يطالب بعودة القوتلي معتبرة أن الدستور والمجلس النيابي السابقين لا يزالان شرعيين، وقامت بتسيير مظاهرة إلى القصر الجمهوري يوم 24 آب/أغسطس 1950 لتحقيق مطالبها، لكن لم يجدِ ذلك نفعاً، فقد أعلن الدستور الجديد في 15 من أيلول/سبتمبر وتحوّلت الجمعية التأسيسية إلى مجلس نيابي بعدما تشكلت من الأحزاب التي تبنّت الحكم القائم بصورته تلك، وهي حزب الشعب والإخوان المسلمين والبعث والعربي الاشتراكي. وتم تكليف خالد العظم برئاسة الحكومة في 27 آذار/مارس 1951، فكانت الحكومة من سبعة وزراء، خمسة منهم من المستقلين، وممثل عن الجيش في وزارة الدفاع، وممثل عن الاشتراكيين العرب.
وبينما كانت حكومة العظم هذه تناقش بيانها في المجلس النيابي، قامت إسرائيل بقصف الأراضي السورية، الأمر الذي دفع البعثيين والإخوان إلى الإسراع في منحها الثقة. وكانت مفاجأة تلك الجلسة دعم الحزب الوطني (المؤيد للقوتلي) للحكومة وكان هدفه من ذلك إضعاف حزب الشعب.
حكومة العظم ابتدأت عهدها بترقية الشيشلكي إلى قائد عام للجيش والقوات المسلحة، ثم نفت قائد الجيش السابق بتعيينه محلقاً عسكرياً في تركيا، وعيّنت فوزي سلو وزيراً للدفاع، ثم التفت العظم إلى الشأن الاقتصادي، فأغلق الحدود السورية أمام البضائع اللبنانية ليدعم الصناعات السورية، وبذلك تكامل إنهاء الوحدة الاقتصادية مع لبنان، كما دشّن العظم مرفأ اللاذقية وأطلق مشروع مد السكك الحديد بين المحافظات الشرقية واللاذقية.
تفاقم الصدام ما بين العظم وحزب الشعب الذي رشّح معروف الدواليبي (مرشّح الإخوان المسلمين أيضاً والمقرّب منهم) لمنصب رئيس المجلس النيابي، فردّ الشيشكلي والعظم بمرشّح آخر (نائب الجزيرة عبد الباقي نظام الدين المتحدّر من آل البيت) وأفضى التصويت إلى فوز الدواليبي، بعد ذلك رفض المجلس التصديق على مشروع قانون لزيادة ميزانية الجيش، ولم يتم التوصّل إلى حل وسط، فاستقال العظم من رئاسة الحكومة، وخلفه حسن الحكيم، ثم زكي الطيّب وأخيراً معروف الدواليبي خلال 120 يوماً فقط.
المشكلة الكبرى التي واجهت الحياة السياسية في سوريا وقتها، هي تفويض الجمعية التأسيسية بتقرير شكل نظام الحكم في البلاد، وهذا التفويض منح حزب الشعب قوة أقلقت الشيشكلي، فنشأ صراع جديد في البرلمان والصحافة بين من يؤيد الجيش والشيشكلي ومن يؤيد حزب الشعب.
حكومات عديدة تم تشكيلها في ذلك الوقت لإدارة الحوار السياسي بين فرقاء السوريين الذي وصل إلى درجة الخلاف على كل شيء تقريباً، ابتداءً من قرار الشيشكلي حظر جنازة اللواء سامي الحناوي في العاصمة، ورد حزب الشعب بتنظيم جنازة له في حلب، ثم الخلاف حول الإشراف على قوى الأمن الداخلي والمطالبة بتحديد وتقييد دور الجيش. وهكذا بات حزب الشعب خصماً مباشراً للشيشكلي، ما دفع بالأخير إلى إصدار أمراً باعتقال قيادات الحزب، فاستقالت حكومة حسن الحكيم احتجاجاً على ذلك القرار، واتجه حزب الشعب إلى التصعيد فأعلن في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1951 تكليف معروف الدواليبي بتشكيل الحكومة محتفظاً بوزارة الدفاع لنفسه، ورافضاً تكليف فوزي سلو بهذه الحقيبة (وكان هذا مطلب الشيشكلي).
الشيشكلي ينقلب على الشيشكلي
كان ذلك النزاع يخفي خلفه خلافاً جوهرياً حول الاتجاه الذي أراده كل من الفريقين للدولة السورية في محيطها وفي العالم، فقد حرص حزب الشعب على جعل سوريا بلداً حيادياً بعيداً من المعسكرين الشرقي والغربي، وتقدّم برسالة إلى اللجنة السياسية للجامعة العربية اقترح فيها تشكيل نوع من الاتحاد بين الدول العربية، كما بدت توجهات حزب الشعب اشتراكية أكثر فتوجّت إجراءاتها بتأميم شركتي الكهرباء الأجنبيتين في دمشق وحلب، فيما كان توجه الشيشكلي ميالاً أكثر نحو الغرب وسياساته الرأسمالية.
مسافة صبر الشيشكلي على تجاهل اعتراضه استغرقت يوماً واحداً فقط، فالحكومة التي تشكّلت يوم 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1951 عقد رئيسها الدواليبي اجتماعاً مع الرئيس هاشم الأتاسي والشيشكلي الذي أصرّ على حلّ الحكومة فوراً، واستبدالها بحكومة موالية للجيش، ولم يتوصل الثلاثة إلى أي تفاهم ينهي الخلاف. وفي اليوم التالي قرّر الشيشكلي حسم الصراع سريعاً، والقيام بانقلاب على انقلابه، فاعتقل الدواليبي وجميع وزرائه وزجّ بهم في سجن المزّة، وأزاح رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي، وعيّن محلّه فوزي سلو رئيساً مؤقتاً، وقبض على قيادات حزب الشعب بمن فيهم ناظم القدسي، وهكذا بدأ عهد الشيشكلي الثاني.
وبثّت إذاعة دمشق "البيان رقم 1" من جديد يوم الثاني من كانون الأول/ديسمبر 1951، وجاء فيه "إن المجلس الأعلى بناء على استقالة رئيس الجمهورية وعدم وجود حكومة في البلاد يأمر بما يلي: يتولى رئيس الأركان العامة ورئيس المجلس العسكري الأعلى مهام رئاسة الدولة، ويتولى كافة الصلاحيات الممنوحة للسلطات التنفيذية. وتصدر المراسيم اعتباراً من (تاريخه) من رئيس الأركان رئيس المجلس العسكري الأعلى".
لم يحتج الشيشكلي أكثر من ثلاثة أشهر تلت انقلابه الثاني لكي يبدأ بحلّ الأحزاب السياسية السورية كلّها، وشمل الحل حزب الشعب وحزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب التعاوني الاشتراكي والجبهة الإسلامية الاشتراكية والحزب الوطني والحزب الجمهوري الديموقراطي، وتم إغلاق مكاتب تلك الأحزاب ومصادرة ممتلكاتها وبيعها في المزاد العلني وفقاً لحرب فرزات.
وكي يعطي لنفسه وحكمه بُعداً ايديولوجياً وتنظيمياً خاصّاً، أطلق حركة التحرير العربي، التي قامت على خليط من الفكر القومي وفكر الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقد تحوّلت لاحقاً إلى حزب سياسي أمينه العام مأمون الكزبري، بينما احتفظ الشيشكلي لنفسه بلقب "الرئيس المؤسس"، ثم أقرّ انتخابات نيابية فازت فيها حركة التحرير بـ 60 مقعدا من أصل 82 مقعد (بعد تخفيض عدد نواب مجلس النواب)، وانتخب الكزبري رئيساً للمجلس الذي سمّى الشيشكلي مرشّحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية ففاز بنسبة 90 بالمئة من الأصوات.
الرئيس هاشم الأتاسي مستقبلاً الأمير فيليب زوج ملكة بريطانيا إليزابيث في حدائق
القصر الجمهوري بدمشق - عن موقع آل الأتاسي)
شهد عهد الشيشكلي ليبرالية ممزوجة بالقرارات الصارمة، وكان هذا الخليط انعكاساً مباشراً لصراع شرس دار حينها على الإنجاز، بين السياسيين المدنيين والعسكر، ولطالما قيل في الشارع السوري إن الشيشكلي بإصداره 257 مرسوماً لتنظيم الحياة في البلاد، قد تفوّق على سنوات من حكم المدنيين لم ينجزوا فيها ما يتفوقون به عليه. قام بحلّ الأحزاب ونظّم الحياة الصحافية، وفرض عبرها على رجال الدين والمفتين والخطباء قواعد صارمة، ووحّد لباسهم وهندامهم، وألزمهم بالتنسيق في خطبهم مع الدولة، وحظر على الطلاب والموظفين في الدولة الانخراط في الحياة السياسية أو الانتساب إلى أي حزب.
كما فُرضت في أيامه تأشيرة بضمانات مالية لمن يرغب بزيارة سوريا، كي لا يعبر إليها من لا يقدر على مستوى لائق من الحياة والرفاه، ووضعت أنظمة متقدمة للضرائب مبدأ، تستند إلى الضريبة التصاعدية، للتمييز بين ما يفرض على الأغنياء ومتوسطي الدخل، وفُتحت البلد لحرية النقد والصرف والاستيراد فيما تم التشديد على منع تسرّب النقد الأجنبي إلى الخارج، وتم تأسيس مصرف سوريا المركزي وإلغاء امتياز مصرف سوريا ولبنان، وتم تشكيل مؤسسة لإصدار النقد السوري، ونقلت إليها كافة ودائع الخزينة السورية. وصدر للمرة الأولى في عهد الشيشكلي، قانون للإصلاح الزراعي يوزّع أملاك الدولة على الفلاحين وكان المشروع يتضمن توزيع 5 ملايين هكتار على 50 ألف أسرة سورية ممن لا يملكون أراضي. ووضعت مشاريع لشق قنوات الري ومعالجة المستنقعات من بينها مشروع تجفيف سهل الغاب، ومشروع وادي اليرموك، وكان من أبرز تلك المشاريع تمويل ري 120 ألف دونم، وإسكان 25 ألف أسرة فيها، ولأجل هذا أخذت الحكومة السورية تتفاوض مع مصرف الإنشاء والتعمير الدولي، وإلى جوار الاهتمام بالقطاع لزراعي وتطوير الريف ومشاريع الكهرباء والإنارة فيه، أقرّ الشيشكلي قانوناً للإصلاح العقاري وهو القانون الذي بقي سارياً طويلاً لتنظيم العلاقة بين الملاك والمستأجرين.
على أن غالبية مشاريع الشيشكلي المهمة وضعت مخططاتها ودراساته وقرارات إنشائها في عهده، وبعضها تم افتتاحه بعد رحيله، ومن بينها مشروع معرض دمشق الدولي، والمصرف المركزي ومشاريع أخرى لا تقلّ أهمية عما سلف ذكره.
وعلى مستوى علاقات سوريا بمحيطها، التقى الشيشكلي بالعاهل السعودي الملك عبدالعزيز آل سعود، وزار مصر واجتمع بالضباط الأحرار وقائدهم اللواء محمد نجيب ودعم تحرّكهم، وقابل وزير الداخلية المصري آنذاك البكباشي جمال عبدالناصر. وفي ما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، أظهر الشيشكلي مواقف متشدّدة، وأطلق المقرّبون من الشيشكلي عليه لقب "عدو إسرائيل رقم 1"، وتناقلت الصحف السورية والعربية مقولته "الطريق من دمشق إلى الخليل سيكون سالكاً أمام الجيش السوري"، وزعمت أن عملية تحرير الأرض جارية يومياً، إلى درجة أن الجيش السوري كان يحرّر تلّة من تلال فلسطين كل يوم.
فلتكن مشيئة الشعب
بعد إعلان الدستور في 10 تموز/يوليو 1953 أصدر الشيشكلي المرسوم رقم 47 لتنظيم الحياة السياسية والحزبية السورية، وقد وضع هذا المرسوم قواعد مشدّدة لمراقبة الأحزاب ومتابعتها إدارياً ومالياً. إلى جانب مرسوم آخر يقضي بتوحيد الصحف السورية لتصبح أربع صحف فقط تصدر في كلّ من دمشق وحمص وحلب والجزيرة.
رفضت غالبية الأحزاب الرضوخ للمرسوم 47، فيما وافق حزبان فقط هما التعاوني الاشتراكي الذي عدّل نظامه الداخلي لينسجم مع مرسوم الرئيس، والسوري القومي الاجتماعي الذي تم منحه رخصة مؤقتة لمزاولة العمل السياسي.
يذكر إن حالة الحزب السوري القومي الاجتماعي كانت مثالاً على التدخل للسلطة في أدق التفاصيل الخاصة بالأحزاب، فقد درست السلطة مدى تعارض مبادئ هذا الحزب مع مادة في المرسوم 47 تنص على "عدم جواز تأليف أحزاب تتعارض أهدافها مع السعى لاستكمال حرية الأمة العربية، وتحقيق وحدتها"، وبناء على تلك الدراسة يمكن النظر في إمكانية منح القوميين السوريين رخصة دائمة لمزاولة السياسة. فما كان منهم إلا أن أصدرو مذكرة، نشرتها صحيفة الصدى اللبنانية في عددها رقم 434 الصادر في 21 أيلول/سبتمبر 1953، أكدّوا فيها "عروبة الشخصية القومية السورية".
أما حزب الشعب وحزب البعث والحزب العربي الاشتراكي والحزب الوطني، فقد شكّلوا "جبهة وطنية" لمقاومة التفرّد بالسلطة، وعقدوا مؤتمراً في حمص شارك فيه ممثلون عن الإخوان المسلمين، منددين بإطلاق الحريات العامة، وعدم الاعتراف بالحكم الحالي، وبإعادة الحكم الديموقراطي وحماية الاستقلال، معتبرين أن الجيش مِلك الأمة وأن الواجب يفرض تعزيز قوته للدفاع عن البلاد.
في مؤتمر حمص الوطني، طالب الرئيس هاشم الأتاسي بإبراء ذمّة السوريين ممن تسبّب في ما آليت إليه أوضاع البلاد، وتمت تلاوة كلمة لسلطان باشا الأطرش جلبها معه وفد السويداء، وصدر بيان المؤتمر ليعتبر وثيقة وطنية تتلاقى مع رغبة الشعب في "حياة حرة كريمة".
لم يكن ليطفئ غضب الشيشكلي سوى اعتقال هاشم الأتاسي وسلطان باشا الأطرش، إلا أنه، خشية أن يلام على ذلك، اكتفى بحبس نجليهما عدنان الأتاسي ومنصور الأطرش ردّاً على موقفهما في مؤتمر حمص. كما أصدر أمراً باعتقال ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وصديقه القديم أكرم الحوراني، ما دفع بالثلاثة إلى اللجوء إلى لبنان هرباً من بطش الشيشكلي، وهناك قام الحوراني بدمج حزبه "العربي الاشتراكي" مع "حزب البعث" ليولد "حزب البعث العربي الاشتراكي"، وفي شقة مخفية حاول الإسرائيليون التواصل مع قيادة البعث للمرّة الأولى كما يقول الحوراني في مذكراته التي أصدرتها دار مدبولي في القاهرة، حيث وصف مشهداً، قرعت فيه الباب على قادة البعث المتوارين سيدة غامضة قائلة له ولعفلق "أنتما قادة حزب ولستما اولاداً صغاراً حتى يستغلوكما بما ھـو ضار لمصلحة بلدكما، وبالإمكان أن ترفضا. الحكومة الإسرائيلية مستعدة لإرسـال موفـديھا للاجتمـاع بكما والتفاهم معكما، وإذا كان ذلك متعذراً هنا، ففي إيطالیا أو في أي مكان آخر".
وفي المقابل يروي رؤوفين أرليخ في كتابه "المتاهة اللبنانية: سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان من 1918 إلى 1959" الصادر العام 2000 في تل أبيب عن دار معراخوت ووزارة الدفاع الإسرائيلية، وترجمه محمد بدير/ أن أكرم الحوراني بعث برسالة عبر كمال جنبلاط إلى رجل الأعمال اليهودي زفي دوريل (زفي فايتسمان) ومدير لجنة رؤساء الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية الناشئة في ذلك الوقت، رؤوفين شيلواه، بغرض الحديث مع إلياهو ساسون لترتيب لقاء مع إسرائيليين في أوروبا.
لم يكن الشيشكلي قادراً على استيعاب حجم وخطورة الاحتجاج الذي يواجهه، لكنه بالتأكيد كان يشعر بمرارته، حتى أنه اشتكى قائلاً "إن أعدائي يشبهون الأفعى؛ رأسها في جبل الدروز ومعدتها في حمص، وذيلها في حلب" مشيراً إلى مناطق نفوذ خصومه سلطان الأطرش وهاشم الأتاسي وحزب الشعب.
ازدادت ضراوة معارضي الشيشكلي ومن ساندوهم، فدعم العراقيون قوة عسكرية من المنشقين عن الجيش السوري سمّيت "قوات سوريا الحرّة"، وأعلنت الحكومة السورية أنها عثرت على قطع سلاح أرسلها العراق إلى بلدة القريا بجبل العرب (بلدة سلطان الأطرش). فشنّ الشيشكلي حملة عسكرية ضد السويداء وقصف الجبل بالطائرات وطاول القصف ضواحي السويداء ذاتها. ولم يكن ذلك الموقف طائفياً كما حاول البعض تصويره، بحكم كون الشيشكلي يتحدر من أصول مسلمة سنّية، بينما السويداء ذات أكثرية درزية، وإنما هو موقف نابع من قرار الشيشكلي بسط سيادته على كل بقعة في الدولة السورية، وهو رأى بعينه وعايش تفاصيل الثورة السورية الكبرى ويعرف كيف يمكن لتمرّد مكان صغير مثل السويداء أن يهدّد قوة مثل فرنسا، فكيف ستكون الحال مع حكمه هو؟ ولم يكن مخطئاً في تخوفاته فقد خرجت المظاهرات في حلب ضد حكمه الذي وصفه سلطان باشا الأطرش بالديكتاتوري، ما اضطره إلى توسيع حملة الاعتقالات لتطاول زعامات حلب وحمص. وقد ورد في شهادات المحكمة في العراق في عهد عبد الكريم قاسم أن العراقيين أرسلوا أموالاً لقيادات سورية معارضة لدعم مشروع إطاحة الشيشكلي استلم منها رئيس الحزب الوطني صبري العسلي مبلغ 15 ألف دينار.
وسط هذا الضجيج، قاد كمال جنبلاط نشاطاً دبلوماسياً حثيثاً للوقوف في وجه الشيشكلي، وتسرّب أنه كان يخطط لحملة عسكرية انطلاقاً من الأراضي اللبنانية لمقاومة هجوم الجيش السوري الذي حاصر السويداء وتسبب في مقتل مدنيين وحركة نزوح للسكان هرباً من القصف الجوي. قال جنبلاط خلال زيارة أجراها للقائم بالأعمال البريطاني في بيروت، السير إيان ديكسون سكوت، يوم 24 شباط/فبراير 1954، إنه يفكّر في القيام بعمل عسكري ضد الشيشكلي في سوريا بسبب تصاعد أعمال العنف فيها ضد المدنيين، وفقاً لما أورده نجدة فتحي صفوة في كتابه "من نافذة السفارة - العرب في الوثائق البريطانية" الصادر عن دار رياض الريّس في لندن العام 1992.
(رئيس الأركان العامة بالجيش السوري، شوكت شقير، خلال الاحتفال بعيد الجلاء 1954)
في اليوم التالي على تصريحات كمال جنبلاط، أعلن النقيب (البعثي) مصطفى حمدون، التمرّد في حلب، ووجّه عبر إذاعتها بياناً يدعو الشيشكلي للاستقالة ومغادرة البلاد، واستدعى المقدّم فيصل الأتاسي رئيس أركان اللواء الثاني في حلب القناصل الأجانب في المدينة وأبلغهم بالموقف، بعدما اعتقل قائد اللواء والمحافظ و"قيادات حركة التحرير"، ووجه إنذاراً إلى الشيشكلي بمغادرة البلاد قبل الساعة التاسعة من مساء ذلك اليوم، وإلا ستوجّه إليه تهمة الخيانة العظمى. وسرعان ما اتخذت قيادات الألوية العسكرية الموقف ذاته في الساحل ودير الزور والمنطقة الوسطى وحوران.
كان ذلك كله يجري، بينما الشيشكلي يناقش في قصر الضيافة بشارع "أبو رمانة" بدمشق، مع رئيس أركانه اللواء شوكت شقير، ما آلت إليه الأوضاع، وكان قادراً بحسب شهادات كبار الضباط الذين عايشوا تلك اللحظات على سحق التمرّد العسكري، فغالبية قوات الجيش كانت موالية له، بأسلحتها ودباباتها وثكناتها، لكنه اختار خياراً آخر.
كانت تجربة الشيشكلي مثالاً نموذجياً على قدرة القوة والاستبداد على تجاوز الحياة المدنية نحو التنمية والاستبداد، وعلى رضوخ النخب لها وانقيادها بحثاً عن مصالحها، ثم تحوّلت إلى مثال نموذجي مقابل يظهر كيف تستطيع الحياة السياسية والاحتجاجات والضغط تحطيم رمزية القوة لدى المجتمع وتقويضها في نهاية المطاف مهما كان إنجازها.
كلمة السر الأخيرة الهامسة إلى الديكتاتور المُحاصر، أتت من القامشلي، وفقاً لرواية غسان زكريا في كتابه "السلطان الأحمر" الصادر في لندن عن دار أرادوس العام 1991، حين التقى بالشيشكلي نائبها العربي والسوري القومي الاجتماعي زكي نظام الدين، الذي وصل إلى دمشق وقد بدأت فيها المظاهرات. قال نظام الدين للشيشكلي إنه يجب أن يغادر السلطة، فأجاب الشيشكلي في نهاية حواره معه "فلتكن مشيئة الشعب". وهكذا كتب الشيشكلي بيان تنحّيه، وغادر دمشق إلى مصيره الدامي، مفتتحاً حديثه بالقول "رغبةً مني في تجنّب سفك دماء الشعب الذي أحب..".
(*) يتبع: مشاريع تتصارع لتأسيس نظام "مناسب" في دمشق.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها