تقديس الرموز التاريخية، والثقافية، والاجتماعية، والدينية، يحمل في جانب منه، نفحة هروب من مواجهة الحاضر، الفج، المهزوم، والخطر. ومن يلقي نظرة فاحصة على ما ينشر في فايسبوك من صفحات شخصية، أو تسميات لتجمعات ناشطة، بعضها مدفوع الثمن، يلمس حجم الهروب من الإشكالات العويصة والملحة المهيمنة على الذهنية العربية. فنحن نواجه تكريساً محموماً، وهوساً مرَضياً بمشاهير الغناء، والفكر، والشعر، والدين، والأحداث التاريخية، يتردد أمام البصر بطرق لا تخطر على بال، لكنه في المحصلة يدعو للنفور، والتعب في تكراره، وتلفيقه، وابتذاله.
والظاهرة أيضاً تعكس توغل الذهنية الشعبية في هذه الفضاءات الجديدة. الذهنية غير المصاغة حضارياً، وتفتقد للتجربة العميقة في القراءة والحياة على حد سواء، وقد أتاحت لأحط المعتقدات والمستويات، البروز وتسيّد الفضاء الأزرق، مع ما يرافق الأمر من إعلانات، ونشاطات هامشية، وتلفيق فج، ومقولات جاهزة من الشرق والغرب، لا يستبعد بعضها الكذب والتلفيق لإدهاش القارئ.
والمعروف أن كل ثقافة هي نتاج لمجتمع في مرحلة زمنية معينة، وتظهر رموز من تلك الثقافة تعبّر حكماً عن تلك المرحلة، رموز تحمل سماتها وذائقتها وتفاعلاتها مع الوسط الإجتماعي، وهذا ما يطلق عليه تسمية الجيل. الجيل ابن المرحلة، يحمل هموم المجتمع في لحظة زمنية، وله رؤيته الفكرية، والفنية، والجمالية، سواء في الشعر، أو القصة والرواية، أو الفنون البصرية كالسينما، والمسرح، والفن التشكيلي، وغير ذلك من حقول معرفية. وعبر نتاج ذلك الجيل وابداعه يلمس المراقب، والدارس، روح ذلك المجتمع. يرحل الجيل ويأتي غيره لكن الحركة الثقافة والفكرية مستمرة، ولا تتوقف، وهذا من طبيعة الوجود البشري ذاته. ومن الصعب وضع خطوط فاصلة بين الأجيال، لأن الثقافة أنساغ متداخلة تندفع إلى الأعلى دائماً.
وبالنسبة للإرث الحضاري العربي، الممتد آلاف السنين، سيدفع المجتمع جيلاً آخر من المثقفين والمفكرين لحمل راية الابداع بالتفاعل مع المرحلة الزمنية الجديدة. وبغياب رموز لحقبة معينة، رموز من نشأ، ونضج ثقافياً وفكرياً في القرن العشرين على سبيل المثال، لن يتوقف الابداع بالتأكيد، بل سيحمل مواصفات جديدة، ويطرح أسئلة تخص الحاضر وإشكالاته التي لها علاقة بالتطور العلمي، والثقافي، والاجتماعي. لكن تكمن المشكلة حين يصبح الهوس بالرموز هروباً ليّناً من المواجهة مع عقد اللحظة الحاضرة وأمراضها، كما لو كان العقل المهووس بالرموز لا يمتلك علاقة حقيقية مع يجري حوله، أو يخشى مواجهته لقساوته، وخطورته، أو هيمنته شبه المطلقة.
الرموز الماضوية حسب مسلّمات الرعاع والسوقة والمعلّبين، قمة الكمال في معتقداتها الدينية، وفي نتاجاتها الثقافية والفكرية، وقد أنجزت أسطورتها ولم تعد تعيش إلا في بطون التاريخ. ولعل تغير السلطات الحاكمة يلقي بظلاله على الأجيال الناشئة من الكتّاب، والفنانين، والمحللين، كحرية التعبير، والانفتاح على العالم الخارجي، وأسئلة التطور الحضاري، والترجمة من لغات أخرى، وموقع الفرد ومجتمعه من الحضارة العلمية الراهنة. وقد اعتقد مثقفون كثيرون بأن زوال حكم المستبدين سينتج عنه حكم مثالي، جاهز، يبني جنته على الأرض، والتمثيل لذلك هنا العراق وسوريا وليبيا، بزوال طغاتها قبل حين. لكن الغريب أن أولئك المثقفين لم يلتفتوا إلى حقيقة بديهية في العالم اليوم وهي أن مجتمعاً أنتج مثل أولئك المستبدين سيقوم بانتاج نسخة جديدة قد تكون أشد وقعاً على الجميع، حيث أن الأسئلة الملحة لم تجد لها إجابات. فالمستبد صناعة مجتمعه. والمجتمع المتخلف المشّوه ينتج مستبديه، وقتلته، ووعاظه المارقين. هو صياغة للرؤية الدينية، والطائفية، والعشائرية، والتخلف العلمي، والقسوة الجاهزة مع الأسرة، والشارع، والمدينة. وهنا تمثل أمامنا معضلات التخلف الشامل، العقلية الدينية في التعامل مع الحياة، الصراع بين العلم والدين، تحطيم الرموز المقدسة والهامش من الحرية الذي تتطلبه عملية قيصرية مثل تلك.
فوق ذلك نحن اليوم نشهد، أيضاً، نمطاً آخر من الفعل الثقافي في ظل متغيرات التكنولوجيا الرقمية، والنشر الإلكتروني، والذكاء الإصطناعي، وأدوات التواصل الاجتماعي التي فرضت نفسها على الجميع. حتى ظهور رموز جديدة اختلفت معاييره وتجلياته، بعد أن أصبحت الثقافة الرقمية هي المسيطرة على المجتمع. والذكاء الإصطناعي يمكنه تلفيق كل ما لا يخطر على البال. سيلفق ذات يوم أنبياء جدد بلا شك، وكتباً مقدسة تجد لها طيفاً واسعاً من الأتباع. نحن في مرحلة ثقافية لم تكن مألوفة لرموزنا التي رحلت، هنا أو على الضفة الأخرى من المحيط. هنالك إذن، ضرورة قصوى تحتم على الأجيال الصاعدة الاهتمام بالرموز الراحلة، والتعريف بها، وأرشفتها على ضوء الانتقال بالثقافة من الورق إلى الفضاء الرقمي، لكي لا تولد الموجات الثقافية الجديدة من فراغ. لكن في الوقت ذاته القفز على قدسيتها الناتجة عن الجهل، بل نقدها وتحطيمها، بعض الأحيان، كي يولد الجديد، العلمي، القابل للنقد. الرمز المشبع بهموم الحاضر بعد أن قطعت الشعوب المتحضرة شوطاً في تحطيم المقدس، والجاهز، والمعلّب من التاريخ المفبرك.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها