وقرأ الباحث المصري
طارق عبدالله "رحلة تقاليد الغناء الاحتجاجي الساخر في مصر من المسرح الغنائي إلى ميدان التحرير، قائلاً: "تشير بعض المصادر إلى تأصل وجود الأغنية الساخرة في الأوساط الشعبية المصرية التي كانت في بعض الأحيان تطاول الحكام والقوانين الصادرة عنهم. كما يبدو أن وجود هذا اللون من الأغاني لم يقتصر على القاهرة والمدن الكبرى، بل امتد إلى مدينة أسوان قرب الحدود الجنوبية، حيث ذاعت أغنية خلال القرن الـ19 تدعو الطاعون إلى القضاء على حاكمهم الطاغي وكاتبه. وقد حازت تلك الأغنية إعجاب إدوارد لين الذي يقول في كتابه "عادات المصريون المحدثون وتقاليدهم": "يميل المصريون خاصة إلى الهجاء. وكثيراً ما يظهرون ذكاء في تهكمهم ومرحهم. وتساعدهم اللغة العربية على استعمال التورية والحديث المبهم الذي يتهكمون فيه بكثرة. وتهجو الطبقات السفلى حكامها في الأغاني ويسخرون من هذه القوانين التي يقاسونها كثيراً".

يضيف عبدالله: "سمح الحراك الاجتماعي-الثقافي والجيوسياسي الضخم الذي ميز الربع الأول من القرن العشرين، والمشروع الطليعي للثنائي بديع خيري وسيد درويش-وغيرهم- بازدهار هذا النوع من الغناء من خلال المسرح الغنائي الذي حفظت لنا الأسطوانات الحجريّة والأرشيف الإذاعي بعضا منها. وتحول هذا المشروع إلى تقليد شعري وموسيقي بعدما تلقفته أجيال من المريدين، نهلوا منه وأضافوا إليه، من أمثال بيرم التونسي والشيخ زكريا أحمد، وأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى (من دون أن ننسى نجيب شهاب ونجيب سرور وفؤاد قاعود)، إضافة إلى صلاح جاهين، فؤاد حداد وسيد مكاوي وغيرهم، وبعدما أصبح هذا الرصيد الكبير من الإنتاج والتراكمات جزءاً أصيلاً من الوعي الجمعي.
ساهم فن المونولوج الفكاهي الذي ازدهر في السينما، من خلال أبو السعود الابياري وفتحي قورة ومؤدين مميزين كإسماعيل يس ومحمود شكوكو، في الحفاظ على هذا النوع من الفن الناقد وتطويره بعد انحسار دور المسرح الغنائي.
أسس نظام دولة يوليو لما يمكن تسميته تقاليد الغناء الرئاسي الجديد اذ أصبح التغني بشخص الرئيس ونظامه الحاكم وبالعروبة وأمجادها، جزءاً أصيلاً مما يعرف بالأغاني الوطنية التي ارتبطت بالمناسبات العامة المختلفة، كعيد الثورة، وعيد العمال، وأعياد نصر أكتوبر المزدوجة (حيث يتم التذكير بها في العاشر من رمضان)، وأعياد تحرير سيناء وعيد المولد النبوي وغيرها. وقد انخرط عدد كبير من الملحنين والشعراء والمطربين في هذا النوع من الغناء حتى مَن تغنى منهم بالنظام الملكي. أوجد نظام يوليو شكلاً جديداً للعلاقة بين الفن والفنانين من ناحية والدولة من ناحية أخرى".
ويتابع عبدالله: "شهدت فترة ثورة 25 يناير 2011 وما تلاها من سنوات انتهت برحيل نظام الإخوان، استدعاءً/استخداماً مكثفاً لرصيد/مخزون ضخم من الأغاني الوطنية المحفورة في الوعي الجمعي من قبل كافة الأطياف والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني المشاركة بغرض الحشد في الساحات أو بهدف السخرية. تنوع هذا الرصيد الذي يمتد لتسعة عقود بين أغاني سيد درويش وأناشيد العهد الملكي "اسلمي يا مصر" وعهد عبد الناصر والسادات ومبارك بما في ذلك الأغنية الوطنية العاطفية كأغنية شادية "يا حبيبتي يا مصر". كذلك شهدت الساحات المختلفة حضوراً قوياً لألحان الشيخ إمام عيسى من أشعار أحمد فؤاد نجم ونجيب شهاب وفؤاد قاعود وغيرهم. كما شارك عشرات الفنانين وبعض الفرق المستقلة -الذين استشعروا أهمية التفاعل مع الحدث إما عن اقتناع بأهمية المشاركة أو تنصلاً من العلاقة القوية التي ربطتها بالنظام البائد ورموزه- في إحياء كافة الاعتصامات واللقاءات المتلفزة.
كذلك، برزت وجوه جديدة من الملحنين المؤدين وعازفي العود المرتبطين بهذا الموروث، والذين لاقوا استحساناً جماهيرياً واسعاً من خلال تجاربهم اللحنية مع أقرانهم من الشعراء مثل تجربة مصطفى سعيد وتميم البرغوثي، وكذلك ألحان حازم شاهين من خلال فرقة اسكندريلا، وأشعار فؤاد وأمين وأحمد حداد.
وشملت الندوة عرضاً لأعمال ساخرة لإسماعيل ياسين، الشيخ إمام، محمود عبد العزيز وعلي الحجار، إلى جانب عرض فيلم وثائقي بعنوان الشيخ المغني لهيني سرور حول حياة الشيخ إمام ودوره في ترسيخ الأغنية الساخرة كأداة فنية مقاومة، وذلك بالتعاون مع نادي لكل الناس.
واختتم اللقاء بجلسة نقاشية أدارتها د. ديانا عباني، تناول فيها تأثير التكنولوجيا على الأغنية الساخرة، والاختلافات بين التعبير الساخر في مصر وبلاد الشام. كما ناقشت المداخلات أهمية توحيد المصطلحات وفهم الخصوصية الثقافية للمؤدين، إضافة إلى المقارنة بين الحراك اللبناني والمصري، حيث برز الأخير في قدرته على تصدير الفن الساخر كوسيلة معارضة إقليمية.
في الختام، عُرض الفيديو الثاني من سلسلة فنية مُنتجة بالذكاء الاصطناعي عن الفنان عمر الزعني، يخرج فيه الزعني من متحف سرسق ليتجول في الجميزة ويتخلله اغنية "شبان شيك"، مانحاً الجمهور تجربة معاصرة تمزج بين الإرث الفني والتكنولوجيا.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها