الخميس 2025/04/17

آخر تحديث: 13:38 (بيروت)

الاغتيال الكبير: ظهور "البعث" وتمزّق الهوية الوطنية السورية

الخميس 2025/04/17
الاغتيال الكبير: ظهور "البعث" وتمزّق الهوية الوطنية السورية
عبد الرحمن الشهبندر
increase حجم الخط decrease
بعد سلسلة من سبع مقالات ضمن ملف "لحظات سوريا الفارقة...قبل الأسد"، هنا حلقة ثامنة عن الثورة السورية الكبرى التي لم تخمد جذوتها، إلا وقد خلّفت لمآلاتها نهاياتٍ مفتوحة، مورثة البلاد تركة ثقيلة سيكون على السوريين مواجهتها كأقدار محتومة، حتى لحظتهم هذه، ولعلّ مما يجدر بهم فعله قبل مكابدتها، فهمُها وتحليلها ومن ثمّ البناء عليها.

"صادفتُه نحو التاسعة ليلاً في أواخر حزيران/يونيو 1940 وكان يمشي الهوينى وحده بشارع المجلس النيابي ببوابة الصالحية، وبعد التحية قلت له: كيف تمشي هكذا وحدك بعد هجماتك العنيفة ضد حزب كبير كالحركة الوطنية؟ فأجابني: إنني طبيب الأمّة، ومُنقذها من تضليل الحزب الذي تعنيه. فلا خوف على من يخدم وطنه بإخلاص. فقلت: لكنك زعيم سياسي يحارب خصومه السياسيين ويحط من قدرهم وزعامتهم. فعليك أن تحذر من انتقامهم"... بعد أسبوع واحد فقط من تاريخ تلك الكلمات التي كتبها يوسف الحكيم، السياسي والقاضي والوزير السوري، في الجزء الثالث من سلسلة مذكراته التي نشرتها دار النهار في بيروت، استفاقت دمشق على خبر هزّ أركانها وكان بمثابة صاعقة أصابت المشرق.

دخل خمسة أشخاص إلى عيادة طبية في حي الشعلان الدمشقي، يوم السادس من تموز/يوليو من ذلك العام، وقدّموا سلة من التفّاح للممرض إبراهيم الكردي. قالوا إنهم من الفقراء والمساكين وبحاجة إلى معاينة طبية، وبمجرّد أن استقبلهم الطبيب وانحنى لفحص واحد منهم، بادره الرجل بطلقات من مسدسه أصابت رأسه فأرداه قتيلاً. كان ذلك الطبيب هو عبد الرحمن الشهبندر الذي، وبعدما تمكّن من تحطيم الكتلة الوطنية ودفعها إلى الاستقالة حكومة ورئيساً عبر تثوير الشارع عليها وكشف ما عدّه مخططات انتهازية للالتفاف على إرادة السوريين، قرّر التفرّغ للعمل الخيري في عيادته ومعاينة المرضى وعلاجهم بالمجان.

خرجت جنازة عظيمة للشهبندر في شوارع دمشق، وشيّع جثمانه من الجامع الأموي وأبّنه عدد كبير من العلماء والشعراء والسياسيين، وبينما كان السوريون في حالة صدمة مما حدث، وقُبض على المنفّذين، وفي مقدمتهم أحمد عصاصة الذي قال إنه تلقى وعداً من جميل مردك بك بأن يدفع له مبلغ 400 ليرة ذهبية بواسطة نائبه عصام النائلي، مقابل قتل الشهبندر.

وجّه النائب العام لدى المجلس العدلي العسكري بعد التحقيقات الاتهام إلى أربعة أشخاص رئيسيين، بناء على اعتراف منفذي الاغتيال، وكانوا على التوالي: شكري القوتلي، جميل مردم بك، ولطفي الحفّار وسعد الله الجابري، أي قادة الكتلة الوطنية التي أطاحها الشهبندر. وجاء في قرار النائب العام الصادر بتاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر 1940 "إن هؤلاء المذكورين حرّضوا على ارتكاب الجريمة، بواسطة مبلغ من المال والوعود والدسائس والحيل، وبذلك اشتركوا في جريمة القتل عمداً". كما أورد محمد كردعلي في مذكراته في الجزء الثاني الصفحة 442 الصادر عن مطبعة الترقي في دمشق العام 1948. وجاء في نص القرار الاتهامي "إن المتهمين لم تكن غايتهم الوحيدة، مقتل الدكتور الشهبندر فحسب، بل كانوا يرمون من وراء ذلك إلى إيقاد نار الفتنة بين الأحزاب، ليتمكنوا بعذ ذلك من الوصول إلى بغيتهم، وهي نشوب اضطرابات تؤدي إلى حرب أهلية".

فرّ المتهمون الأربعة إلى العراق، ووكلوا محامين من لبنان للدفاع عنهم، وهاج الشارع السوري ووقعت صدامات عنيفة بين مؤيدي الكتلة الوطنية والغاضبين من اغتيال الشهبندر، ثم طرأت على المحاكمة تبدلات مفاجئة، فقد غيّر المنفّذون أقوالهم وعادوا عن اعترافاتهم، وخرج قرار جديد من النائب العام في 5 كانون الأول 1940 أكّد فيه أن الجريمة كانت بدوافع دينية متزمّتة نتيجة مواقف الشهبندر العلمانية. وتم رفع الاتهام عن قادة الكتلة الوطنية الأربعة فعادوا من العراق في 18 من الشهر التالي.


"أبناء الست" و"أبناء الجارية"
انقسم السوريون في حقبة ما سمّي بـ"العهد الوطني" التي دشّنت بتوقيع معاهدة العام 1936، إلى قسمين، حسب تعبير أهل الشام "أبناء الست" و"أبناء الجارية"، وذلك بعدما عملت الكتلة الوطنية، التي شكّلت الوزارة وتولى رئيسها هاشم الأتاسي منصب رئاسة الجمهورية، على توزيع المناصب في أجهزة الدولة ومؤسساتها على المنتسبين إليها دوناً عن بقية المواطنين، وشغل شكري القوتلي في تلك الحكومة للمرة الأولى في التاريخ، منصب وزير لأربع وزارات في وقت واحد: المالية والداخلية والخارجية والدفاع بالنيابة.

وكانت المعاهدة قد فجّرت الأجواء السياسية السورية. صحيح أن ما سبقها والظروف التي أنتجتها أتاحت عودة السياسيين المنفيين من الخارج لينشط بقدومهم النقاش بين السوريين حول مستقبل البلاد واستقلالها، إلا هذا المناخ لم يكن يصفو في ظلّ الأوهام التي حاولت الكتلة الوطنية تسويقها وبيعها للسوريين. والمعاهدة في نهاية المطاف لم تجلب للسوريين أكثر من تغيير شروط الاحتلال، بدلاً من إنهائه وتحرير الشعب.

براغماتية الكتلة الوطنية وتراخيها حيال القضايا الجوهرية التي لم يتسامح معها السوريون، وفي مقدمتها "قضية فلسطين"، زادت نقمة الشارع وقياداته الناشئة والقادمة بغالبيتها من الأرياف، حانقة على أصحاب الطرابيش من أبناء الأثرياء الذي شكلوا البورجوازية الوطنية السورية في ذلك الزمن. وأضاف إلى ذلك تراجع الفرنسيين عن وعودهم، ووقفت "عصبة العمل القومي" كرأس حربة ضد اتفاقية 1936، ما تسبب بانشقاقات داخل صفوفها، فانسحب أمينها العام صبري العسلي، وانضم إلى الكتلة وفاز في الانتخابات النيابية، لكن تلك الانشقاقات ستمهّد لولادة حزب البعث في الآتي من الأيام.

أبرز العائدين من المنفى كان الشهبندر، وسلطان باشا الأطرش والأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري والشيخ رضا الرفاعي والحاج فاتح المرعشي. أما الشهبندر فقد ناوأ الكتلة الوطنية، واتهمها ببيع سوريا، منذ اليوم الأول لعودته من منفاه في القاهرة إلى دمشق في 11 أيار/مايو 1937، وقد استقبله السوريون استقبالاً غير مسبوق، خرج فيه آلاف المواطنين في احتفالية حاشدة، طاف بعدها في المدن السورية يندّد بالتعاون مع الفرنسيين.

وكتب محمد كردعلي إن الكتلة الوطنية لم تحترم الرأي العام السوري، ولم تكن تصارحه بالحقائق، واستعملته كواسطة، فكان أن خدعها الأجنبي، واستغلّ تساهلها "المشين"، أما المعارضة البرلمانية والشعبية فلم ينجح الدكتور الشهبندر في اختيار معاونيه لإدارتها، كما قال كردعلي، فقد كانت بينهم خصومات سياسية كبيرة. ومن يقرأ وثائق ذلك الزمن بتدقيق، سيجد أن الصراعات السياسية لم تكن على الشعارات، كما يمكن للمرء أن يتخيّل للوهلة الأولى، بل كانت هناك نقاط خلاف جدّية بين المتخاصمين.

كيف يغيّر قانون الأحوال الشخصية التاريخ
في مقدّمة الخلافات السياسية التي شهدتها تلك الأيام، ملف الحريات والحياة العامة، وما عرف وقتها بنظام الطوائف الدينية أو الأحوال الشخصية. وقد كان المفوض السامي السابق دي مارتيل أصدر في 13 من آذار/مارس 1936، القرار التشريعي رقم 60  المتضمن نظام الأحوال الشخصية للطوائف في سوريا ولبنان، وكان هذا القرار التشريعي شاملاً المسلمين والمسيحيين على قاعدة المساواة. ومن مقتضاه إعطاء كلّ من بلغ سن الرشد وكان متمتعاً بقواه العقلية، حرية الاعتقاد الديني والمذهبي والانتقال من طائفة الى أخرى، وغير ذلك من تعديلات لها صلة بالشؤون الدينية والمعاملات المذهبية، مما لم يألفه المجتمع السوري.

لم تقم الوزارة حينها بأي عمل في سبيل تطبيق ذلك القرار سوى نشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 14 أيار/مايو 1936، لأنها رأت فيه بدعة جديدة بالنسبة للمسلمين والمسيحيين فتركته في زاوية الإهمال إلى أن استقالت، تبعاً لاستقالة رئيس الجمهورية، محمد علي العابد، فانتقل الحكم إلى الكتلة الوطنية، وتألفت وزارتها برئاسة جميل مردم بك، معتمدة على تأييد الشعب لها في معظم مواقفها الوطنية. وبناء على ذلك أصدر المفوض السامي قراره التشريعي ذي الرقم 146، في 18 تشرين الثاني/أكتوبر 1938، مدخلاً عليه تعديلات لبعض مواد القرار السابق بحيث جعله غير شامل للناحية الدينية الحساسة. واكتفت الحكومة بهذا التعديل ونشرته في الجريدة الرسمية، حرصاً منها على عدم إثارة الرأي العام الناقم عليها بسبب فشلها في إقناع الحكومة الفرنسية بتصديق المعاهدة، وتفريطها في الاحتفاظ بلواء اسكندرونة سورياً عربياً ومواقفها الهزيلة مما يجري في فلسطين.

بدا للفرنسيين أن مردم بك وحكومته يسيطران على الأوضاع الداخلية السورية سيطرة كفيلة بتطبيق المزيد من السياسات، فأشاروا إلى حكومة الكتلة الوطنية بتطبيق نظام الطوائف (الأحوال الشخصية)، فتبنته الحكومة في استجابة مباشرة لطلب الفرنسيين، ولتثبت لهم أن الشعب يضع ثقته فيها على النقيض مما كان يحصل في زمن الحكومات السابقة. وما أن علم المعارضون عزم الحكومة على ذلك، حتى أثاروا الرأي العام ضدها بحجة تبنيها نظاماً مخالفاً للدين، فقامت التظاهرات الشعبية في العاصمة منادية بسقوط حكومة مردم بك، وأعقبتها تظاهرات مماثلة في معظم المدن السورية، لم تنتهِ إلا بعد تدابير اتخذها موظفو "الأمن العام" ونصائح تقدم بها العقلاء من أنصار الحكومة.

وكان الشيخ كامل القصاب قد أسس جمعية العلماء بدمشق 1937، وكان من أهدافها كما جاء في أدبياتها "رفع كيان العلم والعلماء، والتصدي لعبث العابثين في عقائد النشء، ساعده في ذلك نخبة كبيرة من كبار العلماء المخلصين". فنشرت هذه الجمعية احتجاجاً مطبوعاً في العاشر من شباط/فبراير 1939 على نظام الطوائف والأحوال الشخصية، فتجددت التظاهرات الشعبية. لكن مجلس الوزراء تدارك الأمر حين عهد في الـ13 من الشهر ذاته، إلى لجنة حقوقية عليا لدارسة النظام المذكور وابداء رأيها فيه، فكانت هذه اللجنة العليا مؤلفة من المفتي العام شكري الاسطواني، والرئيس الثاني لمحكمة التمييز يوسف الحكيم برئاسة الرئيس الأول مصطفى برمده.


الشيخ القصاب اشترك، قبل ذلك، مع عز الدين القسّام في ثورة فلسطين، وألّف بالاشتراك معه كتاب "النقد والبيان في دفع أوهام حزيران" الذي طبع في دمشق بمطبعة الترقي 1925 على نفقة مؤلفيه محمد كامل القصاب ومحمد عز الدين القسّام، نزيلي مدينة حيفا. وفي العام 1937، عاد إلى دمشق بعد صدور العفو العام، وأسس بطلب من علماء الشام "جمعية العلماء" بتصريح رسمي من وزارة الداخلية في 8 من تشرين الثاني/نوفمبر، وقد أسست الجمعية "المعهد العلمي الديني"، كما وقفت بقوة ضد قانون "تصفية أوقاف السلاطين والأمراء والذرية"، ونجحت في تنظيم "مؤتمر العلماء"، الذي جمع 100 عالم من سوريا ولبنان وفلسطين والعراق العام 1938، وقد ضم المؤتمر حينها المشايخ التقليديين كالشيخ علي الدقر مؤسس "جمعية الغراء"، بالإضافة إلى الناشطين الإسلاميين الشباب الذين كانوا يستعدون وقتها لتأسيس الفرع السوري لجماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسهم مؤسس الجماعة ومراقبها الأول مصطفى السباعي، بمعية مصطفى الزرقا ومحمد الحامد ومعروف الدواليبي، وفقاً لتحقيق ليلى الرفاعي في موقع الجزيرة نت "الشبكة العلمائية الدمشقية: القصة الكاملة من النشأة حتى التفكك" المنشور في تموز/يوليو 2018.

قاد القصاب والشهبندر الاحتجاجات ضد حكومة الكتلة الوطنية، حتى تمكنّا من إسقاطها. وأصبحت الكتلة في نظر السوريين، وظهر الاستقطاب الحاد بين تيارين كبيرين؛ الأول تيار الكتلة الوطنية الذي اتسم بالمرونة المفرطة حيال القضايا الوطنية كافة، ولم يكترث لنبض الشارع وهواجسه، والثاني تيار معاكس تماماً أراد التوافق حدّ المطابقة مع المطالب الشعبية. وكان يراقب المشهد آنذاك بعين متربّصة طرف ثالث لطالما نظر إلى الفريقين على أنهما ينتميان إلى طبقات اجتماعية متعالية مستحوذة على القرار الوطني، ويجب أن تزاح بكل وسيلة ممكنة.

بتغيبب الشهبندر بات الصراع مفتوحاً الآن بين "عصبة العمل القومي"، والتيار الديني من جهة، وبين بقايا الكتلة الوطنية من جهة أخرى، الكتلة التي انقلبت حتى على رعاتها ومؤسسيها، وتنكّرت لشخصيات مثل فخري البارودي ولم تدافع عنه حين اتهمه الفرنسيون بتأسيس مجموعات مسلحة، للمفارقة كانت هي الجناح العسكري للكتلة الوطنية، ما اضطرّه إلى اللجوء إلى الأردن والعيش في ضاحية من ضواحي عمّان في ظروف مالية صعبة، لم تنفعه فيها مراسلاته مع شكري القوتلي وقيادات الكتلة، حتى وجد نفسه مضطراً لبيع بيته الشهير في حي القنوات لسداد الديون التي ترتبت عليه من جرّاءِ دعمه للكتلة وللعمل الوطني بشكل عام.

ويروي مروان حبش، عضو القيادة القطرية للبعث والوزير الأسبق، في دراسة نشرها المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا، ضمن سياق عريض من السرديات التي كُتبت لتؤرخ لولادة حزب البعث في تلك الظروف أن "أعضاء العصبة، تميزوا من ناحية الأسلوب، بعمل سياسي قومي منطلق من مبادئ محددة، ودستور للعمل، ونظام داخلي يسلك وفقه الأعضاء. أما من ناحية الفكر فقد اعتبروا القومية قضية مسلما بها والعروبة هوية لكل عربي، واتخذوا من جملة "تحيا العروبة" شعارا لتحيتهم. ولم تعط عصبة العمل القومي لمفهوم القومية أي مضمون موضوعي وعرضوه بتزمت، واعتبروا الديموقراطية الهدف الثاني، أما مفهوم العدالة الاجتماعية فكان غامضاً عندهم رغم أنهم لامسوا إلى حد كبير حاجات الشعب العامة وضمنوا للمواطن، في إعلانهم، الحد الأدنى من العيش الكريم وتسهيل سبل التعليم والصحة والحياة الكريمة. فانفرط عقد العصبة بعد مصرع رئيسها عبد الرزاق الدندشي الذي كان ملتهب الحماسة وعامرا بالحيوية والإخلاص، وبدأ الانشقاق بين أعضائها وانصرف البعض عنها، كما أن البعض من قادتها كصبري العسلي وغيره لجأ إلى أسلوب المساومات مع الكتلة الوطنية وعادوا إلى صفوفها بعد أن نالوا ما يمكن أن يسمى (الترفيع)، إذ حصل عدد منهم على مقاعد نيابية أو وزارية أو عضوية في مجلس الكتلة أو ما هو شبيه بذلك، وتحول من بقي منهم إلى تجمع سياسي بين أشخاص، وتهيأت الظروف لظهور حركات وتجمعات أكثر جذرية وجدية منها".

بعد تفكك عصبة العمل القومي، تم تأسيس حزب سياسي "سرّي" في مؤتمر مغلق عُقد في منزل محمد علي حمادة في بيروت عام 1934، وكان يضم عددا كبيرا من الوطنيين، غالبيتهم من الشباب اسمه "الحزب القومي العربي"، ولأنه كان سريّاً، كما يقول حبش، فإن جماهير الشعب لم تنضو تحت لوائه. لكن أعضاءه كانوا يدخلون في كل المنظمات لتحقيق أهداف الحزب وفي مقدمتها "تحرير أقطار الوطني العربي". وكان لهذا الحزب توجّه اشتراكي شبيه بتوجه عصبة العمل القومي، فتغلغل أعضاؤه في كل مؤسسات الدولة، وفي المنظمات الأهلية وهيئات المجتمع.

انتشر "الحزب القومي العربي" في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين وشرقي الأردن والكويت، ومن مؤسسيه، كان عبد الرحمن الجوخدار، فهمي المحايري، وكانا عضوين في اللجنة العليا لعصبة العمل القومي، مسلم الحافظ ومنير الريس من مكتب الشباب الوطني الذي كان تابعا للكتلة الوطنية، جلال السيد، قسطنطين زريق، وأكرم زعيتر وآخرون.

اعتبر هؤلاء مع حشد كبير في الشارع السوري أن الكتلة الوطنية قد اشتركت في مؤامرة لما قالوا إنه "سلخ" للواء الاسكندرونة عن سوريا، وبدأت بعض الشخصيات تتجه نحو تأسيس تجمعات جديدة تقود الموقف الوطني، وكان من بينها زكي الأرسوزي الذي درس في السوربون، ونال منها إجازة في الفلسفة، وأسس في أنطاكية عام 1937 "نادي العروبة"، الذي تم إطلاق اسم "البعث العربي" على المكتبة الملحقة به، بينما سمّيت صحيفته "العروبة"، وحين تم فصل لواء الاسكندرونة عن سوريا، غادر الأرسوزي نهاية عام 1938 أنطاكية متوجّّهاً إلى دمشق.

كان تأثير الأرسوزي كبيراً جداً على أوساط العاصمة، إذ أسهم دوره كمفكّر في صياغة وعي الجيل الجديد، وخصوصاً حين كان يربط ما بين مشكلات الراهن والتاريخ، ومعهما اللغة العربية، بتأثر واضح بالفلسفة الألمانية العريقة. ويرى كثيرٌ من قراء الأرسوزي أن الرجل تمكّن من وضع قاعدة وأساس فلسفي للفكرة القومية العربية استناداً إلى فكرة الأمّة التي استقاها من الفليسوف الألماني يوهان غوتليب فيخته. وكان الأرسوزي أول من أشار إلى "رسالة" تتضمنها الهوية العربية، حين قال "رسالة الأمة العربية هي رسالة إشعاع الإنسانية بأنوار الروح".

بالتوازي مع مناخ دمشق السياسي العاصف أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، نشأ مناخ ثقاف صاخب بدوره، نوقشت فيه الأفكار والنظريات السياسية والاجتماعية، وبرز من بين شخصياته طالبان دمشقيان عادا من الدراسة في السوربون بفرنسا، هما ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار والتقيا بالأرسوزي وتأثرا بأفكاره.

في العام 1939 عقد كلٌّ من ميشيل قوزما، أليس قندلفت، ميشيل عفلق، وصلاح البيطار وشاكر العاص اجتماعاً لتأسيس منظمة سياسية تتلاقى مع فكر الأرسوزي، لكن هذا الاجتماع لم يفض إلى شيء. وفي الوقت ذاته، كان الأرسوزي يستعد لإطلاق حزب جديد سمّاه "الحزب القومي العربي" عاش بضعة أسابيع قبل أن يغادر مؤسسه دمشق ملتحقاً بالعراق للتدريس في مدارسه.

في السنة التالية، أي في العام 1940، عاد الأرسوزي من العراق وأعلن ولادة "حزب البعث العربي"، وحدد الاجتماع التأسيسي في يوم الذكرى الثانية "سلخ لواء الاسكندرون" أي في 29 تشرين الثاني/أكتوبر من السنة ذاتها، وقال الأرسوزي في خطابه في هذا الاجتماع "أرى أن نؤسس حزباً ونسميه البعث العربي وأقترح أن يقسم التنظيم إلى قسمين سياسي وثقافي"، ومن أبرز مبادئ هذا الحزب أن العرب أمة واحدة، والوطن العربي واحد، والعروبة هي وجداننا القومي مهد المقدسات عنها تنبثق المثل العليا وبالنسبة إليها تقد ر قيم الأشياء. أما العربي فهو سيد القدر، والزعامة العربية زعيمها عربي واحد. وقتذاك كان عفلق والبيطار بعيدين عن هذا الاتجاه، وانشغلا بتأسيس ندوة ثقافية أطلقا عليها اسم "شباب الإحياء العربي".

وباندلاع الحرب العالمية الثانية وحظر سلطات الانتداب للتجمعات السياسية، اندمجت المجموعتان؛ مجموعة الأرسوزي ومجموعة الإحياء، لكن كان لابدّ من مفارقة إضافية تجسّدت برفض الأرسوزي نفسه الانضمام إلى التجمع الجديد الذي أطلقوا عليه اسم "حركة نصرة العراق".

صراع الثقافي مع السياسي
روى لي القيادي الإسلامي الراحل عصام العطار، في سنوات ماضية ببيته في مدينة آخن الألمانية، تفاصيل مثيرة عن مفاجأته مع زملائه الطلاب في ثانوية التجهيز بدمشق حين دخل عليهم أستاذ جديد لمادة التاريخ، كان خجولاً ونحيلاً، وكان اسمه ميشيل عفلق، قالوا لهم إنه قادم من باريس، فلم يعبأ به الطلاب كثيراً حتى تقدّم من السبّورة وكتب عليها "تاريخ الحضارات"، عندها أصغوا إليه جيداً وبعضهم صار صديقاً له وانتسب إلى المجموعات التي كان يؤسسها وأصبح ذا تأثير واسع بين الجيل الشاب.

لم تكن الأحزاب السياسية السورية الناشطة وقتها تولي اهتماماً كافياً لتوجهات الشعب، فكان خالد بكداش يدعم الوفد المفاوض في باريس وكان قد أيد عقد المعاهدة مع الفرنسيين، وفتح للوفد قنوات الاتصال مع اليسار الفرنسي، وأصدر من أجل التنوير بالموقف الجديد للحزب الشيوعي السوري جريدته "صوت الشعب" في بيروت، والتي عملت على إنشاء مكاتب ومراسلين في كل الضيع والبلدات والمدن السورية. وأرسل الشيوعيون وقتها مذكرة إلى الكتلة الوطنية بتاريخ 12كانون الأول/ أكتوبر 1937 دعوها فيها إلى تنظيم مؤتمرات وحملات مشتركة بينهم وبين الكتلة لتنوير الشعب السوري بأهمية هذه المعاهدة والمكاسب التي يمكن أن تجلبها لسوريا، وكذلك لدعم العهد الوطني وتأييده.

مشروع الحزب الشيوعي آنذاك نادى بتأسيس تحالف وطني يضمّه إلى جانب الكتلة الوطنية وعصبة العمل القومي بالإضافة إلى من سمّاهم بـ"المعارضين المخلصين"، على أن يكون برنامج هذا التحالف "العمل على خلق حالة من الاستقرار والهدوء على أساس توطيد تحالف فرنسي سوري شريف يقف سداً منيعاً أمام مطامع الدول الفاشية" كما جاء في بيان للحزب نشرته جريدة القبس في الأول من شهر نيسان/أبريل 1939.



وحين بدأت الدعاية الفاشية بالانتشار في سوريا، تزامناً مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقف الحزب الشيوعي ضدّها، وحاول خطباؤه نشر سردية مضادة، وحمّلوا الفاشيين مسؤولية تعثّر تطبيق المعاهدة، وقال بكداش وقتها إن عملاء إيطاليا وألمانيا هم الذين أفشلوا المعاهدة الفرنسية السورية، و"وجهوا أنظار السوريين نحو روما وبرلين بدلاً من باريس". كما اعتبر الحزب الشيوعي أن أي مناداة بالقومية العربية هي صدى للبورجوازية والرجعية. وظهر صراع حقيقي ما بين الممارسة السياسية والثقافة التي انكبّت على المجتمع السوري، وبدلاً من التنقيب فيه ودراسته، أخذت تصنع له قوالب جديدة جلبتها معها من مدارس الفكر العالمية.

لم تتوقف المظاهرات المندّدة بالكتلة الوطنية والمعاهدة، وزاد من صعوبة الأمر تدفق النازحين من سكان لواء الاسكندرونة إلى العاصمة دمشق ومطالبتهم باسترداد أرضهم من الأتراك. فتتالت استقالات حكومات الكتلة الوطنية، وصولاً إلى حلّ مجلس النواب واستقالة رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي في نهاية المطاف ونهاية ما عُرف بـ"الحكم الوطني" وقيام "حُكم المديرين" تحت إشراف مباشر من المفوّض السامي الفرنسي.

تحوّلت الكتلة الوطنية إلى حزب سياسي تحت عنوان "الحزب الوطني" الذي رفض الرئيس هاشم الأتاسي الانضمام إليه، معتبراً أن دور الكتلة قد انتهى، وهنا ستبدأ زعامة شكري القوتلي من خلال هذا الحزب، عبر مخادعة جرت في حمص في بيت الأتاسي كان طرفاها فارس الخوري والقوتلي، أفضت إلى اعتزال الأتاسي للرئاسة وتفويض القوتلي كزعيم شاب بقيادة المرحلة المقبلة.

وسُمع في تلك الأثناء ولأول مرة اسم ضابط يتردّد في أوساط دمشق، كلّفه القوتلي بقمع المظاهرات التي عمّت البلاد، هو الضابط الكردي العقيد محمد حسني الزعيم، الذي تدرّب في فرنسا، وقاتل خلال الحرب مع حكومة فيشي المؤيدة للنازيين، فحكم عليه بالسجن لعشر سنين وجرّد من الرتب العسكرية بعد اندحار فيشي وحكومته، لكن القوتلي أصدر عفواً رئاسياً عنه وعيّنه رئيساً للمحكمة العسكرية في دير الزور قبل أن ينقله إلى دمشق ويولّيه إدارة قوى الأمن الداخلي.

ارتفعت حدّة التضييق على الحريات والعمل العام في زمن الحرب، وتم قمع الحركات الطلابية بشدّة، فاستقال عفلق والبيطار من سلك التعليم عام 1943 واتجها لتأسيس حلقة سياسية بالتشارك مع جلال السيد من مدينة دير الزور وأبرز أعضاء عصبة العمل القومي، والدكتور مدحت البيطار القادم من الكتلة الوطنية، حملت الاسم "شباب البعث العربي"، سرعان ما أعلنوا عن تنصيب أنفسهم لجنة تنفيذية لحزب جديد هو "حزب البعث العربي" طالبوا السلطات بترخيصه وفتح باب الانتساب إليه وإصدار صحيفة رسمية ناطقة باسمه، غير أن طلبهم هذا ووجه بالرفض. لذلك دخل ميشيل عفلق انتخابات العام 1943 كمرشّح مستقل ودخل المجلس النيابي، فيما كان هناك بعثٌ آخر يتشكّل بين العلويين في اللاذقية على يد واحد من أبناء أنطاكية وأحد ألمع تلاميذ الأرسوزي، ومترجم خطب فيخته لطلابه في برلين، هو الطبيب وهيب الغانم، الذي كان حسب حنا بطاطو صاحب كتاب "فلّاحو سوريا" الصادر عن المركز العربي للأبحاث والدراسات عام 2014 أبرز الأساتذة المؤثرين في حافظ الأسد في سنوات فتوته والذي اتخذه الأسد "معلّماً ومرشداً".

وحتى ذلك الحين، كانت الهوية الوطنية السورية قد تعرّضت لهزات عنيفة في اتجاهات مختلفة، قومية وطائفية وسياسية، استردّت جبلي الدروز والعلويين، وشهدت تمرّداً في الجزيرة السورية، غير أن ما أجهز عليها بعنف كان تمزّقها السياسي في الرؤى والتصورات حول المستقبل، وهو ما بدا جلياً في المسرح السياسي الكبير بدمشق. وكل ذلك جرى قبل أن يتحصّل السوريون على استقلالهم الذي لم تنجزه لا ثورة مسلحة ولا تفاوض ولا معاهدات ولا لعبة سياسية مفبركة.

(*) يتبع: السياسيون والعسكر..."أتمنى أن أحكم الشام يوماً واحداً ثم أُقتل!"


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها