الثلاثاء 2025/04/15

آخر تحديث: 16:49 (بيروت)

صالح الرفاعي في صوره: نسيان الحرب كفعل تحرّر

الثلاثاء 2025/04/15
increase حجم الخط decrease
في جامعة بيروت العربية، لا تُعلَّق فقط الشهادات على الجدران، بل تُعلَّق الذاكرة أيضاً. الجامعة التي اهتزّت جدرانها تحت القصف، وتوقّفت محاضراتها بفعل الحرب، تفتح اليوم أبوابها على معرض يوثّق خمسين عاماً من الجنون الأهلي.

معرض "خمسون عاماً على الحرب الأهلية / لا تنذكر ولا تنعاد" للمصور الفنان صالح الرفاعي، افتُتح في 14 نيسان الجاري، في حرمٍ لا يزال يحمل آثاراً دفينة من تلك السنوات. الحرم نفسه أصيب، تشظّى، تألم، ثم نفض الغبار وأكمل.

هكذا، لم تكن الجامعة مجرّد مضيفة للحدث، بل شاهدة عيان. واليوم، تصير الجدران مساحة مواجهة بين ما كان وما يجب ألّا يُعاد. بين الحرب التي دمّرت، والإعمار الذي يحاول أن يجد له معنى في الصور.


بين الأبيض والأسود... وذاكرتنا الرمادية
يستمر المعرض حتى 25 نيسان، ويضمّ 32 صورة بالأبيض والأسود، وصورتين فقط بالألوان، وكأنهما إشارة خجولة إلى نهاية النار وبداية زمن الاسمنت. كان من المفترض أن يبلغ عدد الصور خمسين، إلا أن صالح الرفاعي قرّر استبعاد صور الدماء، والمقاتلين، والمجازر.

لا مكان هنا لاستعراض العنف، ولا لتوزيع الاتهامات أو نكء جراح الطوائف. يقول الرفاعي لـ"المدن": "شاهد الناس الكثير، لا سيما في الحروب التي عصفت بالمنطقة خلال العقدين الأخيرين. الهدف ليس إثارة الغرائز السلبية، ولا استحضار ما فعله كل حزب، بل الحديث عن الإنسان... عن ذاك الذي جاع، وعطش، وخبّأ أبناءه في الملجأ، عن مشاعرنا الإنسانية وأخلاقياتنا في قلب الجحيم".

المعرض لا يُشبه معارض الذاكرة النمطية. يأتي بلا وعظ أو توثيق مؤسساتي جامد. هو أقرب إلى "استدعاء بصري للوجع"، تحيّة للمصوّرين الذين وثّقوا لحظة الرصاصة قبل أن تخترق الجسد، ثم صاروا هم أنفسهم صورًا مؤطّرة على الجدران.

صالح الرفاعي لم يكن شاهدًا محايدًا. كان شابًا في العشرين من عمره حين اندلعت الحرب. حمل الكاميرا و"تعلّم" التصوير في الميدان، بينما كان أقرانه يتعلّمون إطلاق النار. يروي "كنّا مندفعين بلا خبرة، كثير من الزملاء أُصيبوا أو استُشهدوا لأنّ أحدًا لم يكن يعرف ما معنى تغطية حرب".

أما اسم المعرض "لا تنذكَر ولا تنعاد"، فليس شعارًا، بل موقفًا. تمرّ الذكرى الخمسون لانطلاق آلة القتل بين اللبنانيين، تلك الحرب التي لم تُعلن نهايتها رسميًّا، بل انسحبت بهدوء، كمن يخرج من باب خلفيّ دون أن يعتذر. يقول الرفاعي: يُردّدون كل عام: تنذكَر ولا تنعاد، لكن الحقيقة أنّنا لم نعد نريد تذكّرها أصلًا، ليس لأنّها غير مهمّة، بل لأنّها تحوّلت إلى أداة ابتزاز سياسي. حان الوقت لإغلاق هذا الملف، لا أن نستحضره حسب الطلب. هذه مسؤوليّة الدولة".


طلاب لم يشهدوا الحرب... لكنهم يحملون ندوبها
في المعرض، تنوّع الحضور بين صحافيين واكاديميين وأمنيين: العميد أحمد اللبابيدي ممثّلًا وزير الدفاع، نقيب المصوّرين علي علوش، النائب الاسبق عمّار حوري، الفنان عمر كركلا، ورئيس الجامعة وائل نبيل عبد السلام. شخصيّات رسمية وثقافية، تكتمل بها عادةً مشهدية الافتتاح.

لكن الوجوه التي خطفت الضوء، وجعلت الصور تتحرّك في عيون المتلقّي، هم الطلاب، الذين لم يولدوا بعد حين كانت المدافع تنبح في الشوارع، ولم يعرفوا عن الحرب سوى ما قيل لهم أو ما مرّ في كتب التاريخ، ها هم يقفون وجهًا لوجه أمام صور لا يملكون سياقها الكامل، لكنهم يشعرون بثقلها، كأنّ الذاكرة وجع يتجاوز التواريخ. يقول الطالب هادي سرحان لـ"المدن": "شعرت أنّ الحرب التي شهدناها قبل أشهر فقط قد عادت. ربما لم نكن واعين تمامًا للحرب الأهلية، لكنّ الدمار ذاته، الخوف ذاته". ويعلّق يوسف سيف الدين "الصورة ليست ورقة. شعرت أنّني داخلها. شعرت بالحزن، كيف كان الناس يتعذّبون، يُهجّرون، ويموتون".

زينة العريس، مديرة العلاقات العامة والتواصل في جامعة بيروت العربية، تختصر المسافة بين جيلين وتعبر "نحن جيل الحرب، عشناها وعشنا توابعها. ولهذا شعرنا بالمسؤوليّة بأن يرى طلابنا ما جرى، أن يشعروا به. لا نريد لهم أن يعيشوا حربًا جديدة لأنّهم لم يفهموا القديمة". وتتابع: "مرّت خمسون سنة، وهذا رقم لا بدّ من توثيقه. نحن في الجامعة مسؤولون عن الموسم الثقافي السنوي، ومن واجبنا أن نُدرج هذه المحطة كجزء أساسي من الذاكرة. هذا المعرض موجه بالدرجة الأولى إلى طلابنا، ليقولوا: لا نريد حربًا، لا للطائفية، نريد وطنًا نعيش فيه بأمن وسلام".

هذا المعرض، إذن، ليس عن الحرب. هو عن صدى الحرب. عن الندبة التي لم تُخَطّ بعد. هو دعوة لكي نُعيد النظر، لا في الصور، بل في ذاكرتنا، وفي الروايات التي نعيد تدويرها منذ خمسين عاماً. ولعلّ أهم ما في المعرض، أنه يقترح علينا النسيان... لا كفعل تجاهل، بل كفعل تحرّر.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها