كنا في مطلع الربيع، ومع ذلك هطلت الأمطار بلا توقف طوال اليومين الأولين من زيارتنا إلى العاصمة الكرواتية. التجأنا إلى المتاحف حين أشتدّ المطر، وحين خفتت حدة هطوله وخرجنا للتجوال، بدا وسط المدينة القديم بديعاً، بشوارعه المرصوفة بالحجر المصقول والمباني التي ظهر كل منها كتحفة معمارية منفردة. في هذا، تشبه زغرب نسخة مصغرة وأقل فخامة من بودابست، عاصمة الأسياد الهنغاريين الذين حكموا الكروات لوقت طويل. لا أثر لزمن الحكم الشيوعي سوى في المباني السكنية الخرسانية ذات الطراز الوحشي الموحد في الدائرة الخارجية للمدينة صغيرة الحجم. كل النصب الأخرى تم محوها من المدينة.
لم يحالفنا الحظ، إذ كان متحف التاريخ الكرواتي مغلقاً إلى أمد غير محدد ومعه متحف الفن الحديث، وهما المتحفان الرئيسان في زغرب، وذلك على أثر الزلزال الذي ضرب المدينة في 2020 وترك بصمته على بعض من المباني الأثرية. توجهنا إلى غاليري اتحاد الفنانين التشكيليين، والذي يطلق عليه السكان اسم "المسجد" بسبب طرازه (وإن كان لا يشبه المسجد على الإطلاق)، وهناك أصابنا الإحباط حين وجدنا المبنى الدائري المحاط بالأعمدة يخضع لأعمال الترميم. ظننا أن زغرب تسقط جزءاً من تاريخها عمداً، متحف المدينة يشير بشكل عابر إلى الحرب الأهلية التي اندلعت مع تفكك الاتحاد اليوغسلافي، ويخصص لها مساحة أقل مما يفردها للمخترع الكرواتي سلافوليوب إدوارد بنكالا والذي يعود إليه الفضل في اختراع أول قلم رصاص ميكانيكي في العام 1906 وأول قلم حبر جاف في العام اللاحق. هناك أيضاً ركن عن تاريخ الجالية اليهودية الصغيرة التي لم يتجاوز عددها الثلاثمئة فرد، مطلع القرن الماضي، ولا ذِكر للسكان المسلمين الذي يتجاوز عددهم 13 ألف مواطن. إشارات فخورة ومتكررة عن دور الكروات في الدفاع عن أوروبا ضد الخطر العثماني.

(رسائل منتجة الأفلام أولينكا فيشتيكا، والنحات درازين غروبيسيتش)
حين خرجنا، رأينا حشداً من بضع مئات يتبع كاهناً، وشمامسة يحملون أيقونات للعذراء وينشدون، ودار الموكب في الميدان الرئيس للمدينة، ليتوقف كل بضع دقائق ويجثو أفراده على ركبهم للحظات قبل معاودة المسير. وذلك كله تحت الأمطار. فقط في متحف الفن المعاصر، رأينا بعضاً من ذاكرة الحرب الأهلية، حيث خصص الجناح الأول من المتحف لموضوع الحرب.
كان من المفترض أن يتحسن الطقس في اليوم الثالث من الزيارة. صباحاً، توجهنا إلى الجبال على مشارف المدينة، كانت رحلة لا تتجاوز نصف الساعة في الترام. وحين شرعنا في الصعود، بدأ الثلج يهطل على القمة، وبالكاد كنا نرى كفوفنا، فالسحاب كان كثيفاً ويلفنا من الاتجاهات كافة. تناولنا غذاء متواضعاً، مرق الفاصوليا مع البطاطس المهروسة، وهي الوجبة الثابتة التي تقدّمها استراحات خشبية صغيرة متناثرة على الجبال. وبينما كنا على وشك الهبوط، رأينا جمعاً يتقدمه قس، يصعدون الجبل الوعر وهم ينشدون ويجثون كل بضعة أمتار. لاحقاً وحين وصلنا إلى سفح الجبل، أشرقت الشمس، وكانت حرارتها قاسية، واحتجنا أن نتخفف من معظم ملابسنا.
تحتوى المدينة على عدد من المتاحف الصغيرة، متحف لعش الغراب ومتحف للشيكولاتة ومتحف لعقد الثمانينيات ومتحف للقنب ومتحف للخداع البصري، وأشهرها متحف للعلاقات المحطّمة. تأسس هذ المتحف على يد فنانَين من زغرب، منتجة الأفلام أولينكا فيشتيكا، والنحات درازين غروبيسيتش. بعد انتهاء علاقتهما الغرامية التي استمرت أربع سنوات في العام 2003، تشارك الثنائي مزحة بشأن إقامة متحف يضم متعلقاتهما الشخصية التي تذكّرهما بعلاقتهما. وبعد ثلاث سنوات، شرعا في العمل على الفكرة بجدية، وطلبا من أصدقائهما التبرع بالمتعلقات التي تركوها بعد انفصالاتهم عن عشاقهم، وعُرضت المقتنيات للمرة الأولى في صالون زغرب للفنون العام 2006.
بعد عشرات الجولات في مدن مختلفة حول العالم، وتبرع أشخاص من بلدان مختلفة بمتعلقات تذكرهم بعلاقاتهم السابقة مرفقة بنص شارح، تجاوزت مقتنيات المتحف الآن أكثر من 3500 قطعة. المعروضات في معظمها من أوروبا وأميركا الشمالية، مع تمثيل واضح لليابان والمكسيك، أما بقية العالم فغائبة.
(متحف العلاقات المحطّمة)
في الصالة الأخيرة من المتحف، تلفت نظري بين المعروضات، قلادة على شكل حروف عربية ترسم حدودها خريطة لفلسطين، والنص الشارح والمعنون "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، يسرد قصة حب مثلية بين فلسطيني-أميركي، وشمال أفريقي يعيش في أوروبا، وتقول في أحد مقاطعها: "أحببنا بعضنا البعض خلال الإبادة الجماعية التي تعرض لها شعبك، وعلى الرغم منها. قلتَ إنني لا أحبك، فرحلت. كيف لي أن أحب أكثر من هذا ومجرد وجودنا تهديد؟ عربيان للغرب، ومثليان للشرق".
حين غادرنا المدينة كانت الشمس ساطعة وحارة على خلفية منسماء تلونت بأزرق كثيف لم أراه من قبل.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها