الإثنين 2025/04/14

آخر تحديث: 17:35 (بيروت)

رحيل فارغاس يوسا: المتقلّب الماجن الموهوب من السماء

الإثنين 2025/04/14
رحيل فارغاس يوسا: المتقلّب الماجن الموهوب من السماء
زار لبنان ووصف مجتمعه كأنه قرأ ميشال شيحا وسائر الذين تحدثوا عن "الهويات اللبنانية"
increase حجم الخط decrease
توفي، الأحد، عملاق الأدب اللاتيني، الكاتب الإسباني-البيروفي ماريو فارغاس يوسا عن 89 عاماً في ليما، حيث كان يعيش منذ أشهر قليلة بعيداً من الحياة العامة، على ما ذكرت عائلته في رسالة عبر منصة "إكس". وتمثّل وفاته نهاية حقبة الجيل الذهبي للأدب في أميركا اللاتينية، والذي كان يوسا آخر ممثليه الكبار.

يوسا عضو الأكاديمية الفرنسية، المثير للجدل، صاحب أكثر من 50 رواية عملاً أدبياً، تُرجم العديد منها على نطاق واسع، فاز بجائزة نوبل للآداب 2010، ووصفته لجنة التحكيم بأنه "راوي قصص موهوب من السماء" و"قادر على تحريك مشاعر القراء".

عُرف بتقلباته السياسية المثيرة. فقبل أن يكون ليبرالياً ونيوليبراليا وثاتشرياً (نسبة الى مارغريت ثاتشر)، كان متعاطفًا في البداية مع الأفكار اليسارية، وعندما كتب "المدينة والكلاب" كان أسير الفليسوف الفرنسي سارتر من جهة، وقائد الثورة الكوبية كاسترو من جهة أخرى. ويقول يوسا عن هذه الرواية، خلال مقابلة أجرتها معه الصحافية اللبنانية كوليت مرشيليان: "أعتقد أن فترة الطفولة والمراهقة وكل ما يجري خلالها من تجارب قاسية أو صعبة، هي فترة حاسمة في حياة كلّ إنسان، خصوصاً في حياة الكاتب، لأنّ هذا الأخير هو في موقع قول أو كتابة أو استرجاع ما ترك أثره فيه، فتطلع عليه هذه التجارب من مرحلة المراهقة المؤثرة. لقد اكتشفتُ كل مشاكل البيرو السياسية والاجتماعية خلال إقامتي في تلك الأكاديمية العسكرية، وتأثرتُ بشدّة حين لمستُ كم أن البيرو هو في مواقف محتدمة، إن في الوضع الاقتصادي أو لناحية العنف أو الفروق الاجتماعية، وكلّ المشكلات التي تنتج عنها من نزاعات وعذابات. لقد نقلتُ هذا العالم إلى روايتي الأولى، لكن الأمر تكرّرعندي بأساليب مختلفة في روايات لاحقة"...


في العام 1959، أيّد يوسا بحماس طوباوية ثورة كاسترو، لكن عندما توسع نظام هذا الأخير، زاد شعور عدم الارتياح لدى يوسا. خلال رحلة إلى هافانا، عرف أن المثليين الكوبيين يسجنون مع معادين للثورة ومجرمين عاديين في معسكرات العمل القسري. قال إنه أرسل رسالة خاصة إلى كاسترو عبّر فيها عن قلقه واندهاشه. بحلول 1971، شعر بأن هذا الاحتجاج الخاص غير كافٍ. عندما خضع الشاعر هيبيرتو پاديلا إلى محاكمة صورية استبدادية، جمع يوسا عدداً من أصدقائه في منزله في برشلونة لصياغة استنكار شعبي ضد كاسترو... بحلول 1982 كان يتناول العشاء مع رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر، والفيلسوف الليبرالي أشعيا برلين، في منزل المؤرخ هيو توماس في لندن. في العام 1984 عندما صدرت روايته "قصة مايتا"، أثارت جدلاً، وأهم ما صوّرته تلك الرواية الشهيرة هي "ارتداد" يوسا بشكل رسمي عن الشيوعية، وتبيّن أن اليوتوبيا مجرد طريق إلى الجحيم. 



في العام 1988، وفي قلب انشغالاته السياسية، فاجأ يوسا الجميع بإصدار رواية تبتعد كثيراً من اهتماماته في تلك الحقبة، وهي "مديح زوجة الأب" (أو "امتداح الخالة" بحسب ترجمة أخرى)، وهي رواية ماجنة أيروسية، تشكل كتاباً لجميع العقد الفرويدية... وقحة وربما لا تختلف عن حياة يوسا. وعندما اعتقد الكثير أن يوسا شُفي تماماً من الكتابة الروائية وانخرط في السياسة بشكل كلي بعد الفورة الرئاسية، في العام 1990، ترشح لمنصب رئاسة الجمهوريّة في البيرو كليبرالي، قبل أن يتفوق عليه فوجيموري مع الأحزاب اليسارية، بنسبة 56,5 في الجولة الانتخابية الثانية. ومن بعدها، أدار يوسا ظهره للسياسة ولبلاده، وقال ان الأدب والسياسة لا يلتقيان.. "فالكاتب شخص يعمل وحيداً وهو يحتاج إلى استقلال كامل وعزلة أكيدة، أما السياسي فهو شخص يعمل كتابع. إنه مستعد للقيام بكل التنازلات التي لا يمكن للكاتب أن يقوم بها أبداً". كتب يوسا رواية انتقامية من منافسه فوجيموري وعنوانها "الزوايا الخمس"، لم تلق ترحيب النقاد، وذكّره بعض كتّاب البيرو برواية "المدينة والكلاب" الجديرة والتي ترجمت الى عشرات اللغات.

وسافر يوسا إلى إسبانيا، ونال جنسيتها، ومنذ ذلك الحين، عاش متنقلاً بين مدريد وبرلين ولندن وباريس. عاد من جديد إلى الرواية في العام 1993 مع "ليتوما في جبال الأنديز" التي تناولت تجربته السياسية الفاشلة، إضافة إلى وقائع مجزرة جبال الأنديز في العام 1983 والتي راح ضحيتها ثمانية صحافيين. وأبعد من تقلباته بين اليمين واليسار، فبعدما اتُّهم الكاتب بدعم اسرائيل، تلقت الأخيرة صدمة كبيرة ممّن كانت تتباهى بكونه صديقاً لها، إذ قال عنها: "أصبحت إسرائيل دولة قوية ومتعجرفة، ودور أصدقائها أن ينتقدوا سياساتها بشدة"، مؤكداً أنه يشعر بالخجل لكونه "صديقاً لها". 

 

وُلِد يوسا العام 1936 لعائلة من الطبقة المتوسطة في أريكيبا جنوبي البيرو. بعد انفصال والديه وهو رضيع، انتقل إلى كوتشابامبا في بوليفيا مع أجداده. عاد إلى بيرو في العاشرة من عمره، وبعد ست سنوات كتب مسرحيته الأولى "هروب الإنكا". تخرج في جامعة ليما، ودرس في إسبانيا، ثم انتقل إلى باريس. روايته الأولى، "زمن البطل"، كانت بمثابة اتهام بالفساد والانتهاكات في مدرسة عسكرية بيروفية. كُتبت الرواية في فترة كان فيها جيش البلاد يتمتع بنفوذ سياسي واجتماعي كبير، ونُشرت العام 1962. دان العديد من الجنرالات البيروفيين صورها القوية والمهددة. واتهم أحدهم فارغاس يوسا بأنه "منحط عقلياً". تدور أحداث روايته التجريبية الثانية "البيت الأخضر" (1966) في صحراء بيرو وغاباتها، وتصف تحالفًا بين القوادين والمبشرين والجنود حول بيت دعارة. وقد جعلته تصويراته للاستبداد والعنف والذكورية، مستخدماً لغةً وصوراً ثرية، نجماً في حركة "البوم" الأدبية في أميركا اللاتينية، التي سلطت الضوء العالمي على القارة.

وفي هذه الحركة تألّقت أسماء لامعة في العالم الناطق باللغة الإسبانية أمثال ماركيز في كولومبيا، وأليخو كاربنتيير في كوبا، وخوان رولفو، وأكتافيو باث، وكارلوس فوينتيس في المكسيك، وبورخيس، وخوليو كورتاثار، وبيّو كاساريس في الأرجنتين، ويوسا في البيرو، وأصبح مؤلفوها الرئيسيون، ومن بينهم صديق فارغاس يوسا الكولومبي ومنافسه أحيانًا ماركيز ــ الذي ابتكر أسلوب الواقعية السحرية في الكتابة ــ أسماء مألوفة في كل بيت، تُقرأ في أنحاء العالم. ومن المعروف أن المؤلفَين لم يتحدثا إلى بعضهما البعض لعقود من الزمن بعدما لكَم يوسا ماركيز في وجهه في إحدى دور السينما المكسيكية العام 1976. وتختلف التقارير حول سبب قيام يوسا بلكم صديقه الكولومبي. وقد تصالحا في العام 2007، وبعد ثلاث سنوات، في العام 2010.

إن الكثير من أعمال يوسا لا يمكن فصلها عن عدم الاستقرار والعنف في أجزاء من أميركا اللاتينية في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ شهدت المنطقة موجات من الثورات والحكم العسكري. ركزت روايته "حفلة التيس"، التي نُشرت العام 2000، على الديكتاتور رافائيل تروخيلو، الذي حكم جمهورية الدومينيكان لمدة 31 عامًا حتى اغتياله العام 1961. وقد نالت الرواية إشادة لجنة جائزة نوبل لاهتمامها بـ"هياكل السلطة" و"صور مقاومة الفرد وثورته وهزيمته". كان تروخيلو صديقاً للولايات المتحدة وفاسداً للغاية، حتى أن "سي آي إي" أرادت التخلص منه. وقد غطت أعمال يوسا اللاحقة شخصيات متنوعة، مثل القومي الأيرلندي روجر كيسمنت (حلم السلتي، 2012). 

  

حضارة الاستعراض
وفي العام 2018، أثار يوسا ضجة عندما وصف، في مقال له بصحيفة "إلباييس" الإسبانية، الحركة النسوية بأنها "العدو الأكثر تصميماً للأدب، وأنها تحاول تطهيره من الذكورية والتحيزات المتعددة والانحلال الأخلاقي". وفي كتابه "حضارة الاستعراض"، انتقد الوضع الذي تعيشه الثقافة في عالمنا المعاصر حيث طغى النمط الاستهلاكي في الحياة على كل جوانب الحياة، ومنها الثقافة، ليجادل بالقول إننا جميعاً أعلنّا استسلامنا للحماقات التي تحصل. يتبنى يوسا اسماً لهذا العصر صاغه المنظر الماركسي الفرنسي غي ديبورد في كتابه "مجتمع الفرجة". يوسا متشائم حول امكانية بقاء الأدب، وهو يعني الكتب التي ليست في المقام الأول من أجل التسلية والترفيه وتعليم الطبخ والاعتناء بالحديقة المنزلية. يقول إن الكتّاب طلّقوا فكرة إعادة النظر في قضايا المجتمع وتغييره لأنهم يؤمنون اليوم أنه من خلال "الكتابة عن الحاضر سيحصلون على أتباع كثر وشهرة وثروة ونجاح"، بمعنى أن الأدب دخل دائرة الاستهلاك وأصبح في خطر. ويلتقي يوسا في هذا المجال مع المنظّر البلغاري تزفيتان تودوروف، ومقولة "الأدب في خطر"، ولم يتوقف عند هذا الحد، فوصف قرار الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم "نوبل"، منح هذه الجائزة العريقة للمغني بوب ديلان "تعبيراً عن تزايد الاستخفاف بالثقافة في هذا العصر".

وسرعان ما ناقض الكاتب والمفكر نفسه، وسمح بأن يكون ضمن الحماقات التي ينتقدها، إذ وقع في "حب" عارضة الأزياء إيزابيل بريسلير وهو في الثمانين من العمر، وترك زوجته لأجلها، وكان يقول إنه يخضع لجلسات التصوير بجانب إيزابيل "حباً لها"، لكنه لا يعرف طريقة للتنصل من ذلك. وبعدما وصف صحافة المغامرات العاطفية وأخبار المشاهير بأنها "تفتقر إلى القيم الجمالية، ويسيطر عليها كرنفال الدجالين"، صار يقول عندما بدأت علاقته مع إيزابيل: "إنها ظاهرة ثقافية في هذا العصر. ثمة ملايين من البشر يسعون وراء ما يدفعهم إلى الحلم. في الماضي هذا ما كانت توفره لهم الرواية والشعر، أما اليوم فتوفره هذه الصحافة بقدر هائل من الموهبة"... "هناك المئات من المنشورات وبرامج الإذاعة والتلفزيون التي تغذي نوعاً من الفضول أساسه كشف الحياة الخاصة للناس"، قال يوسا لـ"نيويورك تايمز". وأضاف: "الكثير من الناس سعداء. وعلى العكس من ذلك، هي مهنة حقيقية لإظهار خصوصيتك. إنها نوع من التعري، لا، من الحياة، الجنسية والشهوانية على وجه الخصوص. وإنها عالم يبث الرعب في نفسي حرفياً".

وبعد مغامراته مع إيزابيل بريسلير، قرّر أن يصنع من حياته رواية يكون هو بطلها. فبعد عودته من نيويورك، حيث احتفل وزوجته باتريسيا يوسا وأولادهما وأحفادهما بذكرى مرور نصف قرن على زواجهما، ترك الكاتب البيروفي رسالة وجهها إلى زوجته، قبل أن يمضي في مغامرته، قال فيها: "لقد أديت ما عليّ، حان الوقت كي أكون سعيداً. لم يبق لي كثير من الوقت". سألته "نيويورك تايمز" عن الطلاق، فقال: "هذا الموضوع له علاقة بالحبّ. الحبّ على الأرجح هو أثرى تجربة يمر بها الإنسان. لا شيء يقلب حياة المرء كما يفعل الحبّ. في الوقت نفسه، الحبّ تجربة شخصية. إذا أعلنته، أصبح رخيصاً، زائفاً، مليئاً بالابتذال. لهذا السبب من الصعب جداً الكتابة عن الحبّ في الأدب. عليك أن تجد أكثر الطرق براعة حتى لا يفقد صدقه ويصبح مبتذلاً. لذا أظن أنه لا ينبغي للمرء الحديث عن الحبّ، خصوصاً إذا كان الحبّ مهماً جداً في حياته". ويقول متابعون إن صاحب "حفلة التيس" كان يشعر منذ فترة بأن صورته تحوّلت ديكوراً لتزيين الحفلات واللقاءات الاجتماعية التي تنظمها إيزابيل أو تدعى إليها. وعلى مبدأ "كوني جميلة واصمتي"، كان يوسا عاشقا وصامتاً، بل مشجعاً لأمور يمقتها.

في ظلال الأرز
وزار يوسا زار لبنان قبل سنوات، وكتب مقالة بعنوان "في ظلال الأرز"، ومَن يقرأ النص يحسب أن الروائي البيروفي عاش في لبنان ردحاً من الزمن وعرف مكنوناته وتركيبته قبل أن يحمل قلمه ويشرّح الشخصية اللبنانية في مقالة مقتضبة ومكثفة، ربما هي زبدة كتاب أو مسودة لمشروع مستقبلي وإضاءة على نموذج من احوال المجتمعات في العالم. كأنه سبق له ان قرأ ميشال شيحا وسائر الذين تحدثوا عن "الهويات اللبنانية". كان على يوسا ان يشاهد كورنيش بيروت البحري غير المتناهي، بناطحات سحابه، وأنهار السيارات التي تذرعه، والحشود المتنوعة على أرصفته حيث تظهر، جنباً إلى جنب، نساء محجبات من القدمين حتى الرأس، وفتيات جميلات تتطاير شعورهن مع الهواء، ويكشفن عن بطونهن، وأذرعهن، وأفخاذهن، وظهورهن، بطلاقة الباريسيات أو النيويوركيات. وفي رحلته زار يوسا النائب السابق وليد جنبلاط في المختارة، وكتب عنه: "حياة زعيم الأقلية الدرزية المحاطة بالموت لم تحرمه من السخرية، إنه شخصية مثيرة للفضول يبدو كما لو امتزج فيه سيد إقطاعي، ومثقف متهور وكوزموبوليتي، نبي وحتى في بيته علق الصور المتناقضة بين الداعية إلى الحرية والديكتاتورية".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها