كانت محطة في المكتبة الوطنية خصت إلى حديث معمق في شجون الحرب وذكرها من وجوه أكاديمية على غرار مرتان عقاد ونايلة خضر حمادة وجنان ضومط نادر، وبعض ممثلين عن المجتمع المدني ومواطنون هم ممن تكبدوا العواقب الجسيمة من هذه الحرب المجنونة، وعلى رأسها وداد حلواني وسعاد هرباوي من لجنة أهالي المفقودين والمفقودين قسراً في لبنان، ولجنة المعتقلين في السجون السورية، من خلال شخص علي أبو دهن، خطاباً من رئيس الحكومة نواف سلام ووزير الثقافة غسان سلامة في المناسبة عينها.
المشهد تكرر في وجعه ومأساته منذ 50 عاماً، مع إضافة معرض صور "خمسون من خمسون" بالتعاون مع مجموعة النهار الإعلامية و"لوريان لو جور" بمختارات من أعمال دون ماكولن والمصورين المكرمين ميشال صايغ ونبيل إسماعيل وعباس سليمان والراحل جورج سمرجيان، تؤرخ "هول" ما حدث في البشر والحجر ونفوسنا الثكلى لشيء من الراحة والأمان.
يحيط هذه الصور المعلقة على جدران المكتبة الوطنية في جانب خاص طاولة لعرض بعض مجلدات جمعت قصصات صحف من جرائد "النهار" و"العمل" و"الحياة" وأعداد من مجلة "الحوادث" و"الأسبوع العربي"، وبعض الكتب المؤرخة لهول الدمار وبعضها صادر عن "أمم للتوثيق" مثلاً.
الذكرى والوجع
قبل نقل وقائع الندوة الأخيرة، التقت "المدن" مع مقاتلين سابقين هما زياد صعب (مسؤول سابق في الحزب الشيوعي) وحيدر عماشا (عضو سابق في مجموعات يسارية)، وهما من مؤسسي جمعية "محاربون من أجل السلام".
يؤكد صعب أنه "لا يتملكه الخوف لأن من شاركوا في الحرب هم اليوم أكثر وعياً من مرحلة الحرب الأهلية السابقة"، مشيراً إلى أنه "سيواجه أي محاولة للعودة إلى القتل لأنه يصب اليوم كل جهوده مع رفاقه المقاتلين السابقين لبناء السلام، مع الإشارة إلى أنني أرى أن ليس لأي طرف مصلحة في العودة إلى الحرب رغم دقة الوضع اليوم في لبنان".
أما عماشا فيعبر "عن خوفه الشديد من العودة للحرب في ظل وجود انقسامات داخلية في لبنان، وهي ما زالت في المقت نفسه تأتمر من الخارج"، موضحاً أنه "لن يحمل السلاح من جديد، مع تشديده أنه لن يسكت البت مع من سيحاول حمله مجدداً إلى تلك التجربة، واعداً نفسه بأنه سيقف في وجهه مذكراً إياه بالنتائج، التي حصدناها في الحرب الماضية". يدعو أخيراً الجميع إلى مراجعة الذات مخصصاً "حزب الله في هذه الدعوة، لأن هذا الأخير لم يمتلك القرار بعد للقيام بذلك إلى الآن".
بدورها، تؤكد مديرة مركز "أمم للتوثيق والأبحاث" مونيكا برغمان لـ"المدن" أنه "من المحزن أن نجتمع اليوم لإحياء ذكرى الحرب من دون أن نتمكن فعلياً من الاحتفال بنهاية هذه الحرب المشؤومة على لبنان".
في تفاصيل الندوة الأخيرة، التي ترأسها الوزير السابق عباس الحلبي، عنوان محرج يطرح في الحوار على المنتدين "ماذا تغير بعد 50 عاماً من انطلاقة الحرب (1990-1975) ليتبين أن آثار الحرب امتدت على الجوانب الاجتماعية والثقافية والإنسانية في مجتمعنا المنقسم عمودياً على ذاته والآخر، بسبب واقع الطائفية المتفشي في المجتمعات الداخلية المنطوية ضمن المجتمع الكبير في لبنان.
ما زال الحلبي يعيش وطأة ذكرياته في يوم اندلاع الحرب في 13 نيسان 1975، مستذكراً أمام الجمهور أنه كان عند اندلاع حادثة بوسطة عين الرمانة في النبطية، حيث لاحظ أن سماء بيروت تبدلت بعد وقوع الحادثة، مع تشديده على الضغوط التي تعرض لها بعد دخوله السلك القضائي، من بعض الميليشيات، التي كانت لا تكترث لدوره القضائي وتتطفل في الكلام والأسئلة عليه وعلى أمثاله عند مروره على حواجزها المفروضة علينا في الشوارع والطرق.
طرحت هذه الجلسة الحوارية، التي غاب عنها الدكتور أنطوان قربان، لأسباب صحية، مقاربة من المؤرخ الدكتور وجيه قانصو، يذكر فيها أن شرارة الحرب اشتعلت في 13 نيسان ولكن جراحنا ما زالت في حنايا الوطن، مع العلم أن الحرب فعل أطاح عناصر الاستقرار، مشيراً إلى أن الحرب هي مشهد مع أبعاد متعددة. يعتبر أن "اتفاق الطائف هو نقطة التحول لا بل المنعطف لإنهاء الحرب، مع العلم أنه تساءل عن سبل مقاربة المشاركين في إعداد هذا الدستور لمشكلتين الأولى إشكالية الهوية العربية في لبنان والثانية إشكالية إعادة توزيع الثروات، التي تعمقت كثيراً مع واقع الطائفية والمذهبية، لتصبح الطائفة عبور بين الدولة والفرد، فتضخم الطائفة إلى حد ما يساهم في استقلالها عن الدولة ويؤدي إلى هشاشة الدولة".

أما مدير فرع بيروت للمركز العربي للأبحاث والدراسات الدكتور خالد زياده فيشدد "على دور العنف، الذي أسهم في تغيير كبير في لبنان"، معدداً "عوامل أساسية لتغيير المساحات المشتركة في الماضي، التي عززت الإنعاش الاجتماعي ودور الدولة، ومنها التهجير، الذي كان في غالبه قسري يهدف إلى تدمير هذه المساحات المشركة وخلق مناطق مشتركة لطائفة محددة".
يلفت أيضاً إلى نوع "آخر من النزوح لأهالي القرى وسببه انتقال الناس إلى المدن مع غياب أي قانون يمنع البناء في أرض الغير مثلاً"، مضيفاً "دور الميليشيات، التي لعبت دوراً عند الشيعة والموارنة، وساهمت في ألانكماش عند الدروز واستبدال الزعامة عند السنة".
يؤكد زيادة إلى "أن التعليم تأثر بتداعيات الحرب وظهر ذلك في تقليص دوره، الذي عرفناه سابقاً أي قبل الحرب في الجامعة اللبنانية، مع ما رافق ذلك من إنشاء فروع لها في المناطق ساهم في تراجع دورها، وصولاً إلى أن انتساب الكادر التعليمي إلى الجامعة الوطنية يخضع بغالبيته إلى الطائفية".
أما الكاتب والروائي محمد أبي سمرا فقد تناول في كلمته بعنوان "ثقافة الحرب وإرثها: التكرار العقيم" مشيراً إلى أن "للبؤس والأذى والقسوة حضور كاسح في ثقافة اللبنانيين الحياتية، قبل سنوات من انهيار بلدهم وإفلاسه. وهم رضخوا قبل ذلك إلى أن تدير "وصاية" خارجية شؤونهم السياسية والأمنية وعصبياتهم السياسية الطائفية. ومعظم زعماء لبنان وسياسييه تملقوا "الوصيَّ" عليهم وضربوا بسيفه. وبعضُهم بإمرته وتحت لوائه حارب وقَتلَ إخوتَه الأعداء في الجماعات الأخرى. ويكثر من اغتالهم "الوصي" فيما هم في قمة مجدهم، أو حاولوا الخروج عن طاعته ووصايته".
يشدد أنه "في لبنان المعاصر السابق على الحرب، نشأت الدولة، كغيرها من الدول العربية المشرقية، على شيء من الفتور والقسر في العلاقات بين جماعاتها. والجماعات اللبنانية المتباينة الهويات والتواريخ، المضطربة والمتنازعة، منذ التأم عقدها في دولة مشتركة، تعيش في "بيت بمنازل كثيرة" حسب المؤرخ كمال الصليبي".
يستطرد أبي سمرا انه "ومع توسع المدن وضواحيها وتكاثر الوافدين إليها، تزايدَ اختلاط فئات نشطتْ بينها علاقات في دوائر السكن ومرافق العمل والتعليم والترفيه. وهذا ما سماه أحمد بيضون ثقافة "الخجل الطائفي" الذي يتبادله المقيمون في دوائر الاختلاط. حيث شُذّبت نتوءات الهويات الطائفية والمناطقية، أو رَسّبَ المتخالِطون فيها تمايزاتهم وتكاتموها"، قال: "أما مناطق الصفاء الطائفي فما احتاج أهلُها إلى ذاك الخجل. بل عاشوا على راحتهم ورسلهم. وربما غير منتبهين لطائفتهم أو سادرين عنها".
أما الروائية نجوى بركات فقد تطرقت في كلمتها عند "الرواية اللبنانية وتوثيق الحرب"، وقالت أن "الرواية اللبنانية ساهمت في توثيق الحرب، كتجربة فردية وجماعية، فلم تكن مجرد مرآة للواقع وقد تحولت أداة نقد وتأمل في معاني الهوية والذاكرة".
تؤكد أنه "بعد ان تركت الحرب ذات النهايات السعيدة المؤجلة، ندوباً عميقة في السياسة والاجتماع والنفس"، موضحة أنه "هكذا، في ظل المصالحة الوطنية وغياب قراءة رسمية موحدة وشاملة، برزت الرواية وسيلة توثيق ومساحة تعبير عن الألم والخوف والفقد والشتات، بل إنها أصبحت المرآة العاكسة زعي اللبناني لذاته وتاريخه". وتضيف أن "الرواية لم تسلم شكلاً من تأثيرات الحرب، إذ تشظت بنيتها السردية وتفككت، فتعددت الأصوات، وغاب التسلسل الزمني، وكثرت أساليب السرد، حيث لم تعد الحرب تروى بشكل خطي، أفقي، مع بداية وعقدة وحل".
تلحظ أن "النهايات غائمة ومفتوحة، والشخصيات متزعزعة كأنها تعرضت لزلزال، وهي تعاني اضطرابات نفسية، ومن تشوش في الذاكرة، ومن تعدد السرديات، التي تزعم كل منها أنها تمثل "الحقيقة الواحدة المطلقة"، مشيرة إلى أنه "هكذا تقاوم الرواية بأن تأخذ مسافة من الجماعة او الطائفة أو الحرب لتتيح لضمير الأنا أن يهيمن، تأكيداً للذات وابتعاداً عن الجماعة، ومصدر التشويش والقلق".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها