عندما اندلعت الحرب في لبنان، لم ندرك أبداً أنها ستطول وتعمر وتشتدّ وتسرق أعمارنا. وأنها ستأخذ من العمر كل ما تبقى منه، وتعركنا عرك الرحى بسفالها. حرب طويلة يتخللها هدنات قصيرة. هدنات لا يمكن أن نصفها بأنها حياة، بل نجاة. لعلها نجاة من محاولات قتل مستمرة ومتعمدة. إنها حياة أشبه بعادة العيش قرب البراكين. شهدنا كل هذا الحريق المشتعل من المحيط إلى الخليج. وقعنا في المثلث الذي يخطف الأزواج. مثلث أضلاعه: فلسطين والنفط والدين. ولا مرة تجرأت وحدقت في الحرب عينا بعين. أين كنت عندما اشتعلت الحرب؟
كنت واقفاً على باب أحلامي أنظر من النافذة ولا أرى أحداً. كنت أنتظر بشغف نتائج امتحانات البكالوريا التي لم تصدر أبداً. بعد شهر أو شهرين استلمنا إفادات، وسمعنا أن المسابقات احترقت في الوزارة جراء القصف المتبادل. شيئاً فشيئاً، راحت تدخل إلى حياتنا مصطلحات لا سابق لها: خطوط التماس، حواجز الخطف والخطف المضاد، والتهجير والقتل على الهوية. وفي تفاصيل الحياة اليومية انقطاع الماء والكهرباء والمحروقات والوقوف أمام أبواب الأفران للحصول على الخبز. كل شيء تغير ودخل إلى الحياة ما أسماه الروائي رشيد الضعيف "تقنيات البؤس". كان هناك هواء مختلف وصوت الغريزة يعلو ويشتد. هناك قصيدة لادونيس كتبها عام 1970 بعنوان "مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف" ويقول فيها: "وأتوا كما تأتي الفصول/ مشت الحقول إلى الحقول/لا ليس من عصر الأفول/ ساعة الهتك العظيم أتت/ وخلخلة العقول/".
تراني أدرب الذاكرة على الاحتفاظ بتلك اللحظات كي لا تضيع. لحظات تضيع فيها الحدود بين الخاص والعام. أحداث حفرت لها مكاناً في القلب والذاكرة: السبت الأسود. القصف على المدرسة الإيطالية في بيروت. اغتيال كمال جنبلاط. الاجتياح الإسرائيلي وخروج سكان بيروت من المدينة إلى مناطق آمنة. اغتيال بشير الجميل. مجزرة صبرا وشاتيلا. حرب الجبل. حرب المخيمات. قصف باصات المدارس على تقاطع الاونيسكو. اغتيال رينه معوض، وهكذا وصولاً إلى اغتيال الحريري عام 2005، وانفجار المرفأ والحرب الإسرائيلية في السنة الماضية، وحجم الرعب المضاعف فيها. ضاعت أشياء كثيرة على الطريق. ضاع الوطن. كتب محمود درويش غير مرة "لا أعلم من باع الوطن لكنني رأيت من يدفع الثمن".
يبقى السؤال الأخير: متى تنتهي الحرب؟ ربما حين نلتقي من جديد. لكن لا الحرب انتهت ولا كتب اللقاء لأحد. وبعد كل الذي مرّ فينا، ها نحن ننتظر حرباً جديدة. لم ننس شيئاً ولم نتعلم شيئاً. كأنه ليس لدينا ما نخسره. كل شيء أصبح وراءنا. لا نخاف من حرب آتية ولا نجزع من حرب منتهية.
شهدنا حروباً كثيرة وأكثر مما تتحمله حياة واحدة. شهدنا حروباً كثيرة دفعنا لها رشوة كبيرة من حياتنا ومن أعمارنا كي ننجو.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها