مثلما كان المتنبي "بعثياً"...الشِّعر والسلطة يجددان العهود

علي سفرالأربعاء 2025/11/05
Image-1762236333
سليمان العيسى: "سيندفع معنا المتنبي في بناء الإنسان العربي الجديد، والوطن العربي الاشتراكي الذي سيمد يديه إلى الإنسانية
حجم الخط
مشاركة عبر

منذ العصر الجاهلي، كان الشعر العربي أداة سيطرة رمزية في يد القبيلة، ثم الدولة. لم يكن مجرد فنّ للتعبير أو التأمل عند كثير من الشعراء، بل وسيلة للتربح والارتزاق وتثبيت النفوذ وتسويق القدرة على بناء الصورة المثالية للزعيم.

 

كان الشاعر الناطق باسم القبيلة يمجّد بطولاتها ويمحو هزائمها، فالشعر هو التاريخ الرسمي الذي يُكتب بالإيقاع، لا بالحبر، ومن يملك الكلمة يملك الذاكرة. وحين قامت الدول الإسلامية ثم الممالك والسلطنات، تحوّل الشعر إلى جزء من جهاز الحكم. أصبح الشاعر مقرّبًا من السلطان، ينال العطايا مقابل مديح الخليفة أو الوالي، وتحوّل المديح إلى نوع من الطاعة الشعرية، في مقابل الهجاء الذي صار تمرّدًا يُعاقَب عليه. ومن مديح زعيم الحي إلى المديح السلطاني، ظلّ الشعر العمودي هو اللغة الرسمية للهيمنة، حيث يُقاس الولاء بعدد الأبيات وجودة القافية.

 

Image-1762236558
محمد ياسين صالح وزير الثقافة السوري

 

وبحلول القرن العشرين وظهور الدول الوطنية، بقيت هذه العلاقة بين الشعر والسلطة قائمة، وإن تغيّر شكلها. ففي العالم العربي عمومًا، ظلّ الشعر العمودي، دون سواه، يُقدَّم بوصفه "الشعر الحقيقي"، فهو الأكثر انضباطًا وتناغمًا وفق المصفوفة التقليدية المعتادة، أي الأكثر شبهًا بالنظام نفسه. وحتى حين ظهر ما يسمى بالشعر الحر، ومن بعده قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، بقيت السلطة تُعاملها بريبة، فهي أشكال منفلتة لا يمكن ضبطها ضمن الوزن أو القافية، تشبه من يتمرد على القوانين، وتُذكّر بأن بعض الجمال لا يخضع للأوامر.

 

وعلى مضض، ربما أمكن لأجيال شعرية أن تستخدم أدبيات ومنابر تمتلكها الدولة، تكتب فيها وتقرأ على خشبات مسارحها قصائد لا تخضع لذائقة المدير والوزير والحاكم، وربما يعود هذا القبول إلى رغبة في احتواء ما يفعله هؤلاء الشباب إلى أن يعودوا إلى رشدهم! وفي المقابل، كانت المنابر الأقرب للديكتاتور تتخم بالقصائد التي ينسجها شعراء يعبرون بين العواصم، فيمدحون هذا وذاك من الملوك والرؤساء مقابل جُعالات وسكن وحاشية وحرس!

 

Image-1762236665
الرئيس أحمد الشرع مع الشعراء

 

رغبة زبائنية السلطات الديكتاتورية في منحها السيطرة المطلقة على الوعي، لم تقتصر على الواقع السياسي وحده، بل تنطح بعضهم لجعلها تهيمن على التاريخ الشعري العربي نفسه، إذ أرادت، عبر إعادة نشر الدواوين، ليس تقديم خدمة للقارئ، بل استغلال هذا الأمر من أجل التكسب وادعاء الحرص على إبراز التراث والمحافظة عليه ووضعه في المحل الذي يليق به.

 

ملامح التمرد أو الكبرياء الفردي عند الشاعر العربي، تتحول عند بعض مؤسسات السلطة الديكتاتورية إلى مدخل للسيطرة عليه هو ذاته، وتدجينه وإعادة تأويل رموزه وإدخالها في نسق الولاء. وهذا ما فعله الشاعر سليمان العيسى في العام 1981 حين قدّم المتنبي على أنه صديقٌ ومعلّم لـ"طلائع البعث"، في كتيب تكفلت دار ثقافة الأطفال في بغداد بطباعته وتوزيعه. وبحسب مقدمة العيسى، فإن العمل الشعري يحاول إشراك المتنبي "في همومنا، وأحلامنا، وأفكارنا، التي نناضل من أجلها. وسوف يندفع معنا في بناء الإنسان العربي الجديد، والوطن العربي الاشتراكي الذي سيمد يديه إلى الإنسانية كلها، يأخذ منها الخير ويُعطيها الخير".

 

هكذا، تأتي اللوحات الشعرية التي يختلط فيها مديح حزب البعث، بالإنشائية المشهدية التي تجعل المتنبي، الشاعر الأكثر فخرًا بذاته حتى في وجه الحاكم، نموذجًا للطاعة والانضباط. وحين يسمع المتنبي كلمات نشيد "البعث" الذي كتب العيسى كلماته: "للبعث يا طلائع / للنصر يا طلائع / أقدامنا حقول / طريقنا مصانع"، سيهتف: "رائع – رائع! يا أبطالنا الصغار، يا أشبال العرب، لم أسمع شيئًا أجمل من هذا قبل الآن. سأكتب لكم أنا أيضًا. سأكتب لكم الأناشيد والقصائد".

 

Image-1762236744

 

والخلاصة تقول إن السلطة لا تكتفي بكتابة الحاضر، بل تُعيد كتابة الشعر ذاته ليخدم سرديتها، فتحوّل رموز التمرّد إلى أدوات تربية أيديولوجية. هذه الصورة من التعامل مع الشعر، بوصفه أداة ترويض لا أداة سؤال، استمرّت حتى اليوم، رغم كل ما جرى ويجري من ثورات معرفية وفنية، ورغم ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وما رافقها من انفتاح على تجارب شعرية جديدة.

 

وإلى الآن ما تزال القصيدة تُستَخدم في لحظات الأزمات أو الاحتفالات الكبرى والتحولات، كوسيلة شعبوية للتحريض واستنهاض الموالين، حيث تُستدعى الفخامة اللفظية والإيقاع الحربي والحماسة لتأكيد فكرة الانتماء والفخر بالتاريخ، الذي يتوجب على الجمهور أن ينتمي إلى بعضه، من قبيل اللحظة الأموية في تاريخ سوريا، في مواجهة البعض الذي انتمى للحظة أخرى.

 

وراثة تقاليد الجماعات والطوائف في بناء لحظة الحاضر، تشبه إطلاق الرصاص على الأقدام. وحين يعترض مثقفون نقديون على تمثل وزير الثقافة السوري محمد ياسين صالح لبعض تلك التقاليد، وكذلك اجتماع الرئيس المؤقت بمجموعة محددة من الشعراء للتفكير في النشيد الوطني الجديد، فإن القضية الأساسية هنا لا تتعلق بالشخصيات بقدر الاعتراض على "ماضوية" السلوك، فيما تفتح الأبواب واسعة أمام تقنيات اتصال عصرية، ويتم التبشير بمشاريع عمرانية تحديثية تحول العاصمة دمشق والمدن الكبرى إلى غابات من الأبراج التجارية والسكنية.

 

لعل السؤال الذي يبقى مفتوحًا بعد هذا كله،  لا يدور حول موقع الشعر من السلطة، أو عن نوعيته بين العمودي أو التفعيلة أو النثر. بل يتناول قدرته على الخروج من دائرة استخدامه كأداة تكريس للهيمنة، وأن يقول ما لا يُقال، ويستعيد صدقه الأول حين كان صرخة فرد في وجه الجماعة، لا نشيد جماعة في مديح الفرد.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث