تقول الأدبيات الماركسية، والوقائع اليومية والحياتية أيضاً، إن الرأسماليات والسياسات تخلق نقائضها، فكيف الحال في نظام مثل أذاك الأميركي الذي يعيش أعلى مراحل الرأسمالية والنيوليبرالية، ويتصدره غلاة المال وعبدة الأرقام من إيلون ماسك إلى جيف بيزوس وغيرهما؟ وعلى هذا، لم يكن غريباً بروز ظاهرة متل زهران ممداني(34 عاما) أول مسلم اشتراكي من أصول هندية، يفوز بمنصب عمدة نيويورك "ثاني أصعب منصب" في الولايات المتحدة. لقد خلقت سياسات باراك حسين أوباما، وهو ظاهرة أخرى، شخصية مثل دونالد ترامب. والآن تخلق بهلونيات ترامب، ظاهرة مثل زهران، وهو ليس الأول في البلدان الغربية. فعمدة لندن، صادق خان، من أصل باكستاني، وريشي سوناك هو أول رئيس وزراء بريطاني من أصول هندية...
ممداني ظاهرة، يصف نفسه بـ"الاشتراكي الديموقراطي"، والأرجح أنه أخذ الديموقراطيين الأميركيين إلى مكان يحبونه، فهو يعلن يساريته بوضوح، ويرى أن وجود المليارديرات أمرٌ ينبغي ألا يكون موجودًا. ولم يكن غريباً أن نحو 26 مليارديرًا أنفقوا ملايين الدولارات في محاولة لمنعه من الوصول لمنصب عمدة نيويورك. لكن المدهش هو دعم مليارديرَين له. وبحسب موقع "فوربس"، فخلال الأسبوع الماضي، أنفق 26 مليارديرًا أو عائلة مليارديرية ما يزيد على 22 مليون دولار إجمالًا لمنع ممداني من الفوز في الانتخابات. في المقابل دعمت إليزابيث سيمونز، ابنة ملياردير صناديق التحوّط الراحل جيم سيمونز (توفي العام 2024 وهي تتشارك ثروة قدرها 32.5 مليار دولار)، بمبلغ 250 ألف دولار، في أغسطس/آب الماضي، إلى منظمة "نيويوركرز من أجل تكاليف أقل" وهي المجموعة المستقلة الرئيسية التي تدعم حملة ممداني. أما الملياردير الثاني الداعم لممداني، فهو توم بريستون-ويرنر، المؤسس المشارك لشركة جيثب، والبالغ من العمر 45 عامًا. ففي أبريل/نيسان، أرسل شيكًا بقيمة 20 ألف دولار إلى منظمة "نيويوركرز من أجل تكاليف أقل". وكان ترامب قد هدّد بحجب مليارات الدولارات من التمويل الفيدرالي عن مدينة نيويورك إذا انتُخب ممداني وسنّ سياسات لا تروق له. وهو أطلق على ممداني لقب "رئيس بلديتي الشيوعي الصغير". وردّ ممداني مشبهاً نفسه بـ"سياسي إسكندنافي، لكنه أسمر البشرة". ولا ندري اذ كان هذا الصراع سيغير شيئاً في سياسات الدولة الأميركية العميقة.
وزهران نموذج للشخصية المعولَمة أو ابن العولمة الثقافية التي يحاربها ترامب، شخصية بهويات كثيرة ومشارب مختلفة، أشبه بأبطال الروايات. فعائلة ممداني هي من أصول هندية مسلمة، كانت تعيش في أوغندا حيث تستقر جالية هندية كبيرة تاريخياً. لكن عائلة ممداني هاجرت إلى الولايات المتحدة عندما كان زهران في الثامنة من العمر، إذ أصبح والده أستاذاً جامعياً في أميركا، أما والدته ميرا نير فهي مخرجة سينمائية أصبح لها حضور واسم في أميركا. ولم يتردد زهران في إعلان جذوره وسط هذا التنوع السكاني. فقد نشر أحد فيديوهات حملته بالكامل باللغة الأردية متضمناً لقطات من أفلام بوليوودية، وفي فيديو آخر تحدث بالإسبانية. وتعرّف ممداني على زوجته راما دواجي، وهي فنانة سورية تبلغ من العمر 27 عاماً وتعيش في بروكلين، عبر تطبيق المواعدة "هينج- Hinge" وذكرت مستندات في ملفه التعريفي بالجمعية التشريعية: "مع تقلبات الحياة وتفرعاتها بين السينما والراب والكتابة، ظل العمل التنظيمي دائماً هو ما يمنعه من الوقوع فريسة لليأس، ويدفعه بدلاً من ذلك إلى الفعل والمبادرة".
نشأ زهران ممداني في نيويورك، المدينة التي لا تنام، بين الحداثة والتنوع، وتخلق ظواهرها السياسية والسينمائية والثقافية والشعرية من نهضة هارلم إلى بول أوستر. وموسيقياً كانت منذ فترة طويلة موطنًا مزدهرًا للأنواع الشعبية مثل موسيقى الجاز والروك وموسيقى السول وموسيقى الآر أند بي والفانك والبلوز الحضري. ممداني ابن التنوع الثقافي وابن نيويورك. هو من جماعة الهيب هوب. مثّل قبل سنوات في فيلم أخرجته والدته، كما عبّر عن نفسه فنياً بالغناء بأسلوب الراب. ينتمي ممداني إلى الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي وقد نشط لسنوات في حركة التظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية والتي تدين السياسة الإسرائيلية. ويدعو إلى إحداث تغييرات عميقة في سلوك وسياسة الحزب وأميركا عموماً. يبدو هذا جلياً في موضوع العلاقة مع إسرائيل، إذ يؤمن ممداني واليسار بأن على أميركا تغيير سياستها في دعم إسرائيل. تثير مواقف ممداني من إسرائيل قلقاً عند الكثير من الأميركيين اليهود، خصوصاً أن نسبة مهمة من سكان نيويورك هم من اليهود. ونقلت "نيويورك تايمز" عن محمود ممداني (79 عاماً)، والد زهران وأستاذ الشؤون الدولية والأنثروبولوجيا الشهير، وصفه للإسرائيليين في بعض كتاباته، بالصهاينة الظالمين، وألقى العام الماضي محاضرات في مخيمات الاعتصام التي نصبها الطلاب في حرم جامعة كولومبيا احتجاجاً على الحرب على غزة، منتقدا تعامل الجامعة مع التظاهرات. ووفقاً لصحيفة "الغارديان"، قالت والدة ممداني عبر منصة "إكس" العام 2013، إنها رفضت حضور مهرجان حيفا السينمائي الدولي في إسرائيل، حيث دُعيت كضيفة شرف، وإنها لن تزور إسرائيل "إلا بعد سقوط الأسوار". كما تُعرب زوجته راما دوجي عن دعمها لفلسطين من خلال رسومها التي تنشرها في إنستغرام.
في المجال الاقتصادي يقول زهران بوضوح إنه اشتراكي رغم أنه نشأ في أكبر بلد رأسمالي في العالم. وقد جذبت وعوده الاشتراكية كثيراً من الناخبين في نيويورك الذين عانوا ويعانون غلاء المعيشة. يعد ممداني بمنع مالكي العقارات من زيادة الإيجارات وجعل ركوب الحافلات مجانياً وتوفير الرعاية المجانية للأطفال أثناء انشغال أهلهم في العمل.
يضع ممداني قضية انتمائه المسلم في إطار الحقوق المدنية، ويقول إن المسلمين في نيويورك يريدون أن يعيشوا بكرامة وأن تتم معاملتهم وفقاً لمبادئ المساواة في البلاد. انتصار زهران اعتبره بعض اليساريين العرب صعوداً ليسار جديد في البلدان الرأسمالية. ربما، لننتظر...
