توم برّاك الثرثار المفوّه...وحُلول الفانوس السحري

محمد حجيريالثلاثاء 2025/11/04
أورتاغوس وباراك في بعبدا (Getty)
أورتاغوس وبراك في بعبدا (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

للبنانيين باع طويل مع الموفدين أو المبعوثين الاميركيين، فبلدهم بلد الأزمات التي تجتر نفسها، وهو الساحة الكونية للقناصل والسفارات، من حرب 1860 مروراً بأزمة 1958 والحرب الأهلية (1975 – 1990) من دون أن ننسى القضايا الأخرى من الصراع العربي الإسرائيلي إلى اليورانيوم الإيراني. أحياناً ينتظرون من الموفدين براشوت الحلول وسفن الإنقاذ، ومرات يشيدون حولهم الخرافات والأساطير والمقولات الجوفاء

 

منذ بداية الحرب اللبنانية في نيسان 1975، تداول معظم اللبنانيين مقولة ان المبعوث الاميركي دين براون الذي انتدبه وزير الخارجية الأميركي وقتها، الراحل هنري كيسنجر كي يدرس الملف اللبناني، أبلغ المسيحيين بأن البواخر في انتظارهم من أجل هجرتهم إلى كندا. وهذه المقولة أصبحت كالأسطورة تتناقل من جيل إلى جيل، اخترع بعض القادة المسيحيين هذه الشائعة وصدّقوها، وذلك في معرض تسويق وجود مؤامرة عليهم تبرّر الاستمرار في تشكيل ميليشيات وحمل السلاح والدخول في مواجهات مع المسلّحين الفلسطينيين.

 

في العام 1982 برز اسم فيليب حبيب، الموفد الأميركي من أصل لبناني، الذي أُوكلت إليه مهمة التفاوض لوقف الحرب، ثم إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت.  فيليب حبيب الذي كتب عنه جون بويكن "ملعون هو صانع السلام"، غنى له فيلمون وهبي لحنه الساخر الذي تردّد على ألسنة الناس في أروقة بيروت الثمانينات: "بيب بيب بيب… إجا فيليب حبيب/ بيب بيب بيب… رجع فيليب حبيب". وقد حاول حبيب انتزاع اتفاق من الأطراف المتصارعة، لكن الدور في النهاية اقتصر على تلبية ما تريده إسرائيل، أي مغادرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مع منظمة التحرير، بيروت، وانتهت مرحلة حبيب بمجزرة صبرا وشاتيلا

 

ستمر سنوات وتغرق السياسية اللبنانية بعبارة نُسبت إلى مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ريتشارد مورفي، مفادها "مخايل ضاهر أو الفوضى"، هذه العبارة ستبقى كشبح طوال سنوات ما بعد الحرب، وستحضر في كل انتخابات رئاسية، وإن تغير الغلاف، الأرجح أن خلف هذه العبارة اللغز عبارة أخرى، "الأسد أو نحرق البلد".

 

يحتاج عرض ثقافة الموفدين وعلاقة اللبنانيين بهم مطولات، وقصدنا من هذا التمهيد الوصول إلى توم برّاك وثرثراته وحدوتاته. قبله كان الموفد أموس هوكستاين الذي بدا كجاسوس في بار السان جورج سابقاً، مارس وصولاته وجولاته وأكل مناقيش الصعتر عند صخرة الروشة وتجول في قلعة بعلبك وشرب القهوة في فردان بصحبة النائب السابق علي بزي، وتغزل بنبيه بري ملقّباً إياه بالـBoss وانتزع الترسيم البحري على مرأى من عيني حسن نصرالله وبرعاية حلفائه. وبعد فصل هوكستاين، تدحرجت الدبلوماسية إلى صلافة مورغان أورتاغوس ومكياجها ونجمة داوودها وانتصاراتها من على باب القصر الجمهوري اللبناني. اختفت مورغان لأسابيع، قلنا أو توهمنا إن الأميركيين يريدون تصحيح ما اقترفته من هفوات ووقاحات... 

 

وأطل توم براك، "الحكواتي" والملياردير والمقاول وصديق ترامب، واللبناني زحلاوي الأصل، كأنه آت من عالم التوك شو وحبّ الثرثرة، إلى درجة أن أحدهم سخر منه بعبارة "كم تصريح بيعمل بالتنكة"؟ وإذا كانت الدبلوماسيات تعتمد على قلّة الكلام والحركات المكوكية واللعب في الكواليس والغرف المغلقة وتحت الطاولة، فبرّاك لديه جموح في الكلام، أحياناً يكون في غير موضعه، وأحياناً يكون مبهماً، ومرات تصبح تصريحاته أشبه بالمؤتمرات الصحافية. وكان وزير الثقافة غسان سلامة، "الدبلوماسي العتيق" مصيباً عندما طلب منه "تخفيف الحكي وتلقي دروساً في التاريخ"، فالموفد الثرثار بشّرنا في البداية بأن "لبنان يواجه تهديداً وجودياً، وإذا لم يتحرك فقد يعود إلى بلاد الشام". 

 

ولم يتوقف الأمر عند اطلاق التصريحات الاعتباطية، فهو في لحظة وصف الصحافيين بالحيوانات على منبر القصر الجمهور أيضاً. ولاحقا جاء ليقول أن المنطقة منطقة حروب، "لا يوجد شرق أوسط، بل قبائل وقرى"، فردّ عليه غسان سلامة بأن الحروب الكبرى في العالم حصلت في أوروبا، وفي كوريا وفيتنام. وقبل أيام أتى ليطلق الأحكام ويصف لبنان بأنه "دولة فاشلة تعاني أزمات سياسية واقتصادية عميقة"، مشيراً إلى أن "الجيش يواجه نقصاً حاداً في الموارد المالية والبشرية". اكتشف البارود صاحبنا، وجد مرضنا الغامض، وضع اصبعه على الجرح. واستدعى تصريحه رداً من سلفه آموس.

 

وآخر بلاهات، براك، قولهك "فليرفع عون السماعة ويتصل بنتنياهو وننهي المهزلة". وكأن القضية خلاف بين شخصين في الحي على أحقية المرور أو خلاف على اللعب بورق الشدّة، أو كأن القضايا العالقة منذ عقود تحلّ بمنطق الفانوس السحري، كن فيكن، أو اطلب وتمنّى.

 

 لا يبدو أن براك يمارس دور الدبلوماسي، ولا يبدو ممتلكاً أي ملامح من الثقافة الدبلوماسية. هو مقاول، ومنطقُه يشبه منطق بعض الزعماء اللبنانيين القبَليين، الذين يوبخون جمهورهم، ويصفون الواقع اللبناني من منطلق ما يلبي تطلعاتهم ومصالحهم. يفتقر خطاب براك الثرثار إلى متطلبات الدبلوماسية. لديه مهمة أساسية مثل كل أقرانه المبعوثين، "أمن إسرائيل"، عدا ذلك من بعدي الطوفان.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث