آني إرنو: كتابة الحياة وليس كتابة حياتي

طارق أبي سمراالثلاثاء 2025/11/04
annie_ernaux_2022_10_06_19_06_12.jpg
آني ارنو الحائزة على "نوبل" للأدب 2022
حجم الخط
مشاركة عبر

"الأنا بغيضة"، يقول الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال، والسبب أنّها جائرة مستبِدّة إذ "تجعل من ذاتها مركز كلّ شيء". فكلٌّ منّا، مهما بلغ من الضآلة والتفاهة، يرى نفسه – ولو أنكر ذلك – محور الخليقة. وليست مقولة "ومن بعدي الطوفان" سوى تعبير صريح عن هذا الشعور الهذياني الدفين بأنّ ذاتنا فريدة ولا يمكن للكون أن يستغني عنها.

 

قد يتساءل البعض: ما الضرر في ذلك؟ ما الضرر في أن يحبّ المرء ذاته ويتشبَّث بأناه كأثمن ما يملك؟ أليست هذه سنّة الحياة، إذا جاز التعبير؟ ألا يصف باسكال الأنا بأنّها بغيضةٌ انطلاقاً من منظوره المسيحيّ الصارم، بل المتزمّت، الذي يرى أنّ الخطيئة تُعشّش في ثنايا الروح؟ هذا كلّه صحيح، إلّا أنّني أجد بغيضةً أيَّ "أنا" تحاول فرض ذاتها عليّ، تحديداً لأنّ أناي تسعى هي الأخرى إلى الهدف نفسه: فرض ذاتها على الآخرين والعالم. باختصار، "أنا" الآخَر بغيضةٌ لأنّ أناي هي أيضاً كذلك، وهكذا تدور الدائرة بلا توقّف.

 

أخصب ميدان أدبيّ لـ"الأنا" هو السيرة الذاتيّة وما يتفرّع عنها من أشكال هجينة تمزج بين السيرة والرواية. ففي هذا النوع من الكتابات، يُطلِق الكاتب العنان لأناه، فتفيض على الصفحات كسيل جارف لا يعرف سدّاً ولا حدّاً. في السيرة الذاتيّة أو ما يُشابهها، لا تواجه الأنا أيُّ مقاومة ولا يعترضها أيُّ عائق، فتتضخّم وتتورّم إلى أقصى الحدود. ذاك أنّ القارئ الذي يفتح الكتاب إنّما يريد تحديداً أن تغمره "أنا" الكاتب كي يذوب فيها بالكامل. لا يعني هذا أنّ الأنا – "أنا" الكاتب – لا تعود بغيضةً، لكنّنا نقبل أن تفرض ذاتها علينا بين دفتَي الكتاب. بل هذا بالضبط ما نبتغيه. فمِن متع قراءة هذا النوع من الكتابات التلصّصُ على "أنا" المؤلِّف. كأنّ ما يحصل هو على النقيض ممّا نختبره في عالم الواقع: فكلّما كانت "أنا" الكاتب بغيضةً أكثر، ازدادت متعتنا.

 

لكنّ هذا لا ينطبق إطلاقاً على إحدى أبرز مَن يكتب السيرة الذاتيّة اليوم، الفرنسيّة آني إرنو (نوبل للأدب 2022)، التي تنتمي جميع أعمالها تقريباً إلى هذا الجنس الأدبي. فبالرغم من أنّ إرنو تتناول مواضيع تبدو في ظاهرها بالغة الحميميّة، مثل علاقتها بشاب يصغرها بثلاثين عاماً ("الشاب")، أو خضوعها لإجهاض سرّي وهي في الثالثة والعشرين ("الحدث")، أو غيرتها المَرَضيّة من المرأة التي يعيش معها عشيقها السابق ("الاحتلال")، فإنّ كتاباتها تتّسم، على نحو مفارق، بنوع من الاحتشام يحول دون أن ينال القارئ أيّ متعة متأتّية من التلصّص. تكتب إرنو مستخدمةً ضمير المتكلّم، أي أنّها تقول "أنا"، لكنّ القارئ لا يشعر البتّة أنّ هذه "الأنا" تسعى إلى فرض ذاتها عليه. إنّها "أنا" غير بغيضة، فما السرّ في ذلك؟

 

يمكننا العثور على بعض عناصر الإجابة عن هذا السؤال في كتابها "العودة إلى إيفتو"، الذي صدر حديثاً عن "منشورات الجمل" بترجمة عربيّة أنجزها مبارك مرابط. هذا الكتاب الصغير الحجم هو نصّ محاضرة ألقتها إرنو العام 2012 في مدينة إيفتو شمال غرب فرنسا، يليه نقاش مع الحضور، إضافةً إلى بعض المقتطفات من يومياتها للعام 1963 وبضع رسائل كتبتها إلى إحدى رفيقاتها في الدراسة.

 

وإيفتو هي المدينة التي أمضت فيها إرنو طفولتها ومراهقتها وبدايات شبابها. إنّها، بحسب تعبيرها، موطن ذاكرتها الأصلية، وقد استخدمتها – هي وفضاءاتها والأشخاص الذين عرفتهم فيها – في الكثير من كتاباتها. ترى إرنو أنّ للمدينة دَيْناً عليها لم تفِ به بعدُ، إذ بالرغم من زيارتها إيفتو بانتظام لرؤية أفراد من عائلتها، فإنّها لم تعد إليها قطّ بصفتها كاتبة، كما تفعل حين تزور مدناً فرنسية أخرى للقاء القرّاء. لقد انسلخت إرنو – أو سلخت نفسها – عن إيفتو بعد تخرّجها من الجامعة وبداية عملها مُدرّسةً ثانوية للغة الفرنسية. فهي المنحدرة من أسرة من الطبقات الشعبيّة، باتت بحكم دراستها وعملها وزواجها تنتمي إلى البورجوازية المثقّفة، وهو ما كانت تصبو إليه منذ بدايات مراهقتها، حين بدأت تشعر بالعار من نمط حياة والدَيها وعاداتهما ولهجتهما وأحوالهما المتواضعة.

 

بالإضافة إلى الهروب من إيفتو والارتقاء الاجتماعي، كان لديها حلم آخر: أن تصبح كاتبة. في الثانية والعشرين من عمرها، كتبت رواية تجريبيّة لم تُنشَر، وكانت لا تمتّ بصلة إلى حياتها وذاكرتها. تقول: "في تلك الفترة، وطيلة سنوات عديدة، محوت ذاكرة الطفولة والمراهقة لأنني ابتعدت، فكريّاً أولاً وجغرافياً بعد ذلك، عن أسرتي وعن منطقة النورماندي. لم أكن أَقبَل سوى إرث واحد فقط: إرث المدرسة والجامعة والأدب".

 

لكنّ وفاة والدها المفاجئة العام 1967، وهي في السابعة والعشرين، أيقظت هذه الذاكرة المكبوتة، ذاكرة حياتها في إيفتو، ما جعل إرنو تعي حجم التحوّل الذي طرأ عليها بفعل الثقافة والوسط البورجوازي الذي ينتمي إليه زوجها. تقول: "انطلاقا من وفاة والدي – الذي كان يجسّد، أكثر من أمي، الانتماء العميق إلى الوسط العمالي الفلاحي – وتدريس تلاميذ كان بعضهم بمثابة صورة طبق الأصل عني لما كنت في سنّهم، بخشونتهم، وفظاظتهم، وجهلهم بالقيم المهيمنة... أدركت ما عليّ كتابته: الكتابة عن الواقع الذي أعرف، عن كلّ ما عَبَر حياتي".

 

أصبحت لديها مادّة للكتابة إذاً. لكنّ الأدب هو أوّلاً الأسلوب، أي اللغة والنبرة والشكل والبناء. تقول: "وجدتني أتخبّط في توتّر، بل ممزّقةً بين اللغة الأدبية – تلك التي تعلّمتُ وأحببتُ – وبين لغتي الأصليّة، لغة البيت، لغة والدَيّ، لغة المقهورين. تلك اللغة التي صرتُ أخجل منها في ما بعد، لكنّها ظلّت تسري فيّ باستمرار. وفي خلفية كل هذا، السؤال هو: ما السبيل، أثناء الكتابة، إلى تجنّب خيانة العالم الذي ترعرت فيه؟".

 

في البداية، كان الحلّ لهذه المعضلة الكتابةَ بلغة عنيفة تأثّراً بلغة لويس فرديناند سيلين، لكنّ إرنو سرعان ما تخلّت عن ذلك وعثرت على أسلوبها الخاص: "كتابة مسطّحة" تكاد أن تكون تقريريّة. لغة مباشرة، متقشّفة، قليلة الاستعارات والصور، تُستدخَل فيها الكلماتُ والتعابيرُ العامية المحليّة التي تستخدمها الطبقات الشعبية في إيفتو. أسلوب يكتفي بسرد الوقائع فيبدو في ظاهره خالياً من المشاعر، لكنه يحتوي على شحنة كبيرة من العنف والانفعالات الجوانيّة أو الباطنيّة. كتابة زاهدة، إذا جاز القول، خالية من أي زخرفة أو تنميق، وتنبذ الغنائيّة والسخرية معاً، كتابةٌ شبّهتها إرنو مراراً بالسكين، إذ تقتطع كل ما هو فائض أو زائد لتصل مباشرة إلى لبّ الشيء.

 

المحيِّر والمدهش في أعمال إرنو أنّها مكتوبةٌ بصيغة المتكلّم ومستنِدةٌ إلى حياتها وذكرياتها، ومع ذلك لا تمتّ بصلة إلى ما يُعرَف بأدب البوح أو الاعتراف، إذ لا يشعر القارئ أنها تشاركه أموراً حميمة، حتّى حينما تسرد تفاصيل إحدى علاقاتها الجنسية. لذلك تقول إرنو إنّه يمكن تعريف مشروعها بأنّه "كتابة الحياة وليس كتابة حياتي... الاختلاف يكمن في كوني لا أعتبر ما حدث لي، وما يحدث لي، شيئاً فريداً... أو يستعصي على الوصف، بل كمادة للتأمّل بهدف الفهم، بهدف إماطة اللثام عن حقيقة عامّة. بهذا المنظور، لا وجود لما يسمّى بالحميمي، هناك فقط أمور تُعاش بطريقة متفرّدة وخاصة – الأشياء تحدث لي وحدي وليس لشخص آخر – والحال أنّ الأدب في كنهه هو كتابة هذه الأشياء الشخصية على منوال لا شخصي".

 

أقلّ ما يُقال إنّها رؤية غريبة بعض الشيء لماهية الأدب، بل لماهية السيرة الذاتية تحديداً: أن تَكتُب عن الذات على نحو لا شخصي وخالٍ من أيّ حميميّة. وما تقوله إرنو عن أعمالها ليس مجرّد تنظير، فهي بالفعل تكتب بهذه الطريقة: إذ يتملّكك الشعور، وأنت تقرأها، بأنّ هذه "الأنا" المُتكلِّمة قد تكون أيّ "أنا"، وليست بالضرورة "أنا" إرنو. إنّها "أنا" لا تفرض ذاتها على الآخر، بل لا تعطي أهمّية لذاتها. كأنّها مجردّ شيء من أشياء العالم الكثيرة. أو كأنّ لا داخل لها: فقط مرآة تعكس أشياء العالم.

 

وبهذا تكون أني إرنو قد قلبت كتابة السيرة الذاتية رأساً على عقب. ولتبيان ذلك، تكفي العودة إلى مُستهَلّ "اعترافات" جان جاك روسّو، العمل الذي يُعدّ أوّل سيرة ذاتيّة في العصر الحديث: "إنّني مُقدِم على مشروع لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير؛ إذ إنّني أبغي أن أعرض على أقراني إنساناً في أصدق صور طبيعته. وهذا الإنسان هو: أنا. أنا وحدي. فإنّي أعرف مشاعر قلبي، كذلك أعرف البشر. ولست أراني قد خُلِقت على شاكلة غيري ممّن رأيت، بل إنّني لأجرؤ على أن أعتقد بأنّني لم أُخلَق على غرار أحد ممّن في الوجود. وإذا لم أكن أفضل منهم فإنّني – على الأقل – أختلف عنهم. ولن يتسنَّى البتُّ فيما إذا كانت الطبيعة قد أصابت أو أخطأت إذ أتلفت القالب الذي صاغتني فيه إلّا بعد قراءة هذه الاعترافات".

 

"أنا" روسّو نموذج مثاليّ لـ"الأنا" البغيضة التي تحدّث عنها باسكال. إنّها الأنا التي تتوهّم أنّها فريدة، أي أنّها لم تُخلَق على شاكلة أحدّ ممّن في الوجود. ولذلك تريد أنّ يتأمّلها كلُّ مَن في الوجود. بل تريد أنّ تتأمل انعكاسَها في عيونهم. أمّا "أنا" إرنو، فمتقشِّفة زاهدة، إذ تدرك أنّ لا شيء فريداً فيها. وأنّها، كأيّ "أنا" أخرى، بغيضةٌ. ولعلّ هذا الإدراك هو ما جعل المعجزة ممكنة: سيرة ذاتيّة تنمحي فيها الذات على نحو شبه صوفي فتصبح مرآةً صافية.

   

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث