في البدء كان الملصق

نغم ربيعالاثنين 2025/11/03
معرض لوحات ورسوم وافيش في مبنى جريدة السفير(مصطفى جمال الدين)
معرض الملصقات في "منتدى السفير" - بيروت (مصطفى جمال الدين)
حجم الخط
مشاركة عبر

في قاعة يغمرها اللون والذاكرة، يقف الزائر أمام خمسين لوحة مختارة بعناية من ملصقات سياسية طبعت ذاكرة النصف الثاني من القرن العشرين، في معرض بعنوان "في البدء كانت المقاومة". المعرض، وهو من إنتاج أصدقاء جوزيف سماحة وتصميم الفنان السوري يوسف عبدلكي، ليس مجرد استعادة لأرشيف بصري منسي، بل استحضار حيّ لزمن آمن بأن الصورة يمكن أن تكون سلاحًا، وبأن الورق قد يحمل عبق الثورة أكثر مما تفعل الدبابة. يُهدي المنظمون هذا المعرض إلى الراحل زياد الرحباني، رمز الفن الملتزم، وعبره إلى شهداء لبنان وفلسطين واليمن وإيران، أولئك الذين كتبوا بدمهم ما خطّه الفنانون بألوانهم.

 

معرض لوحات ورسوم وافيش في مبنى جريدة السفير(مصطفى جمال الدين)

 

ذاكرة البوستر الثوري

من كوبا إلى البرازيل، من جنوب أفريقيا إلى سوريا ولبنان وفلسطين، تتناثر الملصقات كخرائط لنضالات الشعوب. بعضها يحمل توقيع بول غيراغوسيان، وبعضها الآخر نذير نبعة، كمال بلاطة، إسماعيل شموط، مارك رودن، كارلوس لطوف، مؤيد الراوي، ويوسف عبدلكي نفسه. جميعهم، وإن اختلفت مدارسهم الفنية، التقوا على فكرة واحدة، أن الفن فعل مقاومة.

 

في زمن ما قبل الشاشات، كان الملصق السياسي هو الوسيلة الأشد تأثيرًا، والأقدر على التعبئة والتحريض. يخرج من المطبعة إلى الجدران، في الأزقة، على واجهات المقاهي، في الجامعات، وعلى الحواجز العسكرية. ملصق صغير قادر على اختزال حلم أمة بالحرية، بالعدالة، وبالكرامة.

 

معرض لوحات ورسوم وافيش في مبنى جريدة السفير(مصطفى جمال الدين)

 

ليس زينة نضالية

في نصٍّ مرافق للمعرض، يُقال إن "استحضار الملصق السياسي هو استحضار لأداة نضالية تعبيرية عكست الحرارة الثورية التي ظللت النصف الثاني من القرن الماضي". والحق أن هذا الفن لم يكن زينة نضالية، بل كان جزءًا من المعركة نفسها. فبين خطوطه وألوانه تختبئ قصص المقاتلين والطلاب والمنفيين، أولئك الذين حملوا البندقية والكتاب والمعول في آن واحد، مؤمنين بأن التغيير يبدأ بفكرة تخرج إلى العلن، تُعلَّق على جدار، وتتحول إلى شعار يهتف به الناس.

 

في أروقة المعرض، تُرى وجوه الفلاحين، نساء الأنديز، العمّال، ومقاتلين. ملصقات تحكي عن حلم عالمي مشترك بالتحرر. عن جيلٍ خاض معاركه بشجاعة، وحرّر الأرض والإنسان قبل أن تتراجع المعارك وتتبدّل الجبهات. لكن الرسالة بقيت، المقاومة لا تموت. ومن فلسطين اليوم، من غزة تحديدًا، تعود تلك الروح الأولى، كما يعود لبنان بمقاومته ليكمل السردية، كأن هذه الملصقات القديمة وجدت من يواصل معناها.

 

معرض لوحات ورسوم وافيش في مبنى جريدة السفير(مصطفى جمال الدين)

 

صِلة الأمس بالغد

لا يكتفي المعرض بعرض الذاكرة، بل يطمح إلى وصلها بالمستقبل. فهو دعوة مفتوحة لكل من يرى في الفن طريقًا إلى الحرية، ولكل من يرفض "واقع الانكسارات والاختلالات الفاضحة التي تعمّ العالم". في لوحاتٍ يغلب عليها الأحمر والأسود، يتجدّد الإيمان بأن الثورة ليست حدثًا عابرًا، بل نبضاً مستمراً في قلب الإنسان الحر.

 

معرض لوحات ورسوم وافيش في مبنى جريدة السفير(مصطفى جمال الدين)

 

رحلة بصرية نضالية

"في البدء كانت المقاومة" ليس فقط معرضًا، بل رحلة بصرية إلى زمنٍ كان فيه الحلم مشروعًا سياسيًا، والملصق تعويذة ثورية. رحلة تجمع بين الحنين والتحريض، بين الفن والتاريخ، بين الأمل والوجع، لتقول ببساطة، ما زال هناك وقتٌ لأن نحلم، وما زال في الجدار مكانٌ لملصقٍ جديد.

 

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث