رحل الشاعر السوري حسان عزت في تموز الماضي في أبوظبي، ودُفن هناك بسبب عقبات تقنية، حالت دون نقل جثمانه إلى مسقط رأسه بدمشق. ولا يبدو أنه سيعود إلى بلاده قريبا، ولن يتم الأمر من دون مبادرة جهة سورية رسمية، قادرة على تحمل التكاليف، وتذليل المصاعب القانونية، سواء وزارة الثقافة، أو اتحاد الكتّاب.
يستحق الشاعر والكاتب اهتماما يليق به بوصفه قيمة ثقافية، وصاحب موقف سياسي في صف الحرية والديموقراطية، ومواجهة الدكتاتورية، والرداءة التي عمل النظام البائد على ترويجها، بهدف تطويع المجتمع السوري، كي يسهل حكمه عن طريق الخوف، والتجهيل، وتهديم بنيان الهوية الوطنية. ويتوجب على المؤسسات المعنية بالثقافة الاحتفاء بالشاعر في وسائل الإعلام، والمنابر الثقافية المحلية، وهناك ضرورة ملحة لجمع تراثه الشعري والنثري، وإعادة طبع دواوينه الشعرية، ودراساته النقدية، بوصفه يحتل مكانة خاصة بين الشعراء السوريين، الذين شكلوا انعطافه في تجديد قصيدة النثر السورية، بدءا من النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي.
لا تفارقني تفاصيل شخصية كثيرة عن هذا الشاعر والكائن، الذي تعرفت عليه حينما شاركنا معا في مهرجان شعراء الجامعات السورية في دورته الأولى، حيث مثلت جامعة حلب، بينما مثّل هو جامعة دمشق. ومن بعد ذلك خضنا تجربة "الكراس الأدبي" في عام 1976، برفقة كل من جميل حتمل، وائل سواح، فرج بيرقدار، رياض الصالح الحسين، خالد درويش، موفق سليمان، فادية لاذقاني، ويوسف عبدلكي، وساهم معنا كتاب آخرون كعلي الجندي وممدوح عدوان. وقد أحدث ذلك المطبوع ردود فعل واسعة في الوسطين الأدبي والسياسي، وأثار غضب السلطة، التي قامت بحملة اعتقالات لبعض أعضاء المجموعة، وضغطت علينا كي نوقفه عن الصدور بعد عشرة أعداد، مخافة أن يتحول إلى منبر ثقافي معارض، ينشر الأدب ذا النفس الاحتجاجي، الممنوع والمقموع.
تعرفت على حسان شاعرا مجددا، صاحب رؤية متقدمة في الكتابة، شكلا ومضمونا. جمعنا الشعر، والموقف السياسي المعارض، ونشأت بيننا صداقة حميمة. كنت اسافر لدمشق ليلا، جريا على عادة أهلنا في بادية الجزيرة. استقل حافلة الكرنك من حلب، لأصل العاصمة فجرا. أمكث قليلا في الكراج، وفجأة تهبط عليّ الفكرة، كأنها وحي. ثمة من هو مستيقظ في هذا الوقت، يمكن أن يفتح لي باب منزله بلا تكلف، بل بفرح شديد، كي نستقبل معا، نهار دمشق.
زيارة منزل الشاعر في الصباح الباكر، وهو يجهز قهوته على إيقاع موسيقى كلاسيكية، بينما أهله وسكان الحي نيام. ثمة ضوء يدل العابر، في ذلك الوقت، قبل أن تدعوه رائحة القهوة، ليطرق الباب. في ذلك الكثير من مزاج الشاعر، ابن بلدة المليحة في الغوطة الشرقية، ومثل الكثيرين من أهل تلك المنطقة، تعيش عائلته بين الريف والمدينة، لم تقطع حبال الوصل مع الأرض، وما تمثله، على الرغم من الاستقرار في العاصمة، وجدانيا واقتصاديا واجتماعيا. على طاولة صغيرة صينية شاي وزعتر وزيت وزيتون وجبن ولبن وخبز ساخن، وكتب ومجلات، تتراوح بين حديث وقديم، محلي، وقادم من الخارج. أنسي الحاج، شوقي ابي شقرا، يوسف الخال، فايز خضور، ممدوح عدوان، علي الجندي، مجلات "شعر"، "مواقف"، و"الكاتب" المصرية.
في ذلك البيت يعيش أحد الشعراء السوريين الشباب، منصرفا إلى قصيدته الخاصة. يكتب ولا ينشر، حافظ على مسافة من كتاب الصحف والمجلات المتسابقين إلى المنابر والمناصب والمكاسب، التي توزعها السلطة على أبنائها وحراسها ومادحيها. تلك العزلة التي اختارها عن سبق الإصرار، لم تكن عن تعفف المتصوف، بل القارئ لعلامات لخراب الشامل، الذي بدأ يبشر به زمن عائلة الأسد. كان وعيا مبكرا، وحادا بما سيحصل بعد وقت قصير، ويدوم طويلا.
رحل حسان في لحظة شرعت فيها بلادنا بطي صفحة سوداء من تاريخ عاش جزءا منه. وضع رأسه على وسادة ونام، وهو يغني لمكانه الأول، الذي غادره حينما لم يعد في وسعه احتمال الخراب الزاحف من الجهات كافة، ترك سوريا وحمل عائلته الصغيرة مثل طائر صار صعبا عليه أن يحيا وسط أصوات الرصاص ورائحة البارود. مات في اللحظة التي بدأت فيها سوريا ترمي عن ظهرها الحمل الثقيل، ولم تسعفه الحال الصعب كي يعود مع فاتن إلى دمشق، وكان يعز عليه أن تذرف الدموع على قبره البعيد عن دمشق، وهي تكفن قصائدها، التي غنتها له في ساعات الحياة الأخيرة، في ليل المشفى الموحش، كي لا يُفلت يدها في منتصف الطريق.
