من الطبيعي أن نشعر بالخذلان والخيبة إزاء ما أسفرت عنه حرب غزة من أهوال، على المستوى البشري والمادي. وما ترتّب من نتائجها في هذه اللحظة الكارثية، هو تحت الضوء لاستخلاص العِبر السياسية والعسكرية والفكرية. وما يُلفت النظر، حالة من الاستنفار الفكري الحاد عند بعض المثقفين العرب، ضد العقل الغربي كردة فعل على مواقفه من القضايا العربية، وفي طليعتها القضية الفلسطينية، دون تعويلهم على محصّلة الهَبّة الجماهيرية الأوروبية التي شهدتها ساحات العواصم الغربية وشوارعها الرئيسة، ورصدتها عدسات التلفزة العالمية. والتي تزامن معها نشاط منصات الكتب العربية الرقمية لإعادة الزخم إلى عصب التاريخ الفلسطيني، فعرضت المؤلفات الموضوعة والمترجمة حول القضية، من كل مناحيها. وأعادت بذلك الفرصة لمراجعة بعض المثقفين العرب، لما سبق نشره من أفكار سلبية، وسمت في نظرهم الفكر الغربي المعاصر، بوصفه وريث الاستعمار الكولونيالي الذي سوّغ احتلال أراضي فلسطين. وأدرجت هذه الآراء ما يجري اليوم من مجازر دموية، ضمن إشكالية ثقافية وثيقة الصلة بالوجه المظلم للحداثة، وبالمنظومة الاستشراقية التي سادت أوساط الجامعات الغربية والعربية، ما قبل الحرب العالمية الأولى. وآخر ما صدر في هذا الموضوع كتاب المفكر التونسي فتحي المسكيني: "هذه الذات ليست لك - صدوع ديكولونيالية" وكتاب حواري بعنوان: "منيرفا بلا مساء". والمسكيني في ما يكتب، يعتقد أن المنعطفات الفكرية الكبرى للحداثة، ما هي إلا مجرد ادعاءات سردية أوروبية، وباثولوجيا كولونيالية. وعليه يلحّ على ضرورة تحرير الذات العربية والإسلامية المرتهنة والمستلبة، من إطباق المستعمر عليها، بفعل حيازته وسائل القوة والبأس، وبما يمتلك من أجهزة الهيمنة الحديثة الناعمة، والإمكانيات التكنولوجية المتطورة، والخبرات الاقتصادية المتقدمة، والأنظمة الحاسوبية العملاقة. كذلك يدعو إلى مراجعة مفاهيم مفردات ومصطلحات متداولة في الميديا العالمية، وفي أدبياتها الأكاديمية، مثل: الأمركة، والغرب، والصهيونية.
وغلو فتحي المسكيني غير معهود بهذه الدرجة في كتاباته، كأن يتهم الغرب بأنه وريث الفكر الذكوري والأبوي، وإنه قد استولى على إله التوحيد، والكتاب المقدس، والميتافيزيقا اليونانية، وعلى النساء والطبيعة والعقل، وإنه يعمل على مطاردة غير الأوروبيين باعتبارهم خارج مدار الإنسانية. وكذلك حسبانه خطاب حقوق الإنسان، بأنه ليس خطاباً شمولياً، بقدر ما هو خطاب مخصوص، ظهر في لحظة معينة من تاريخ أوروبا الحديثة. كذلك يرى إلى أن التنوير تقنية تخص شعوب الغرب، دون سواها. وهو يحثّ إزاء ذلك على تبني ما يسميه (العصيان المعرفي) الذي يقاوم السردية الغربية، والتبعية الابستمولوجية التي تصادر الحقيقة التاريخية المعرفية لذواتنا، والتي طوّعها الغرب وفق مشيئته ومصلحته. وعليه فإنّ هذا العصر المعولم يُخضع، في نظره، التيارات الفكرية والاجتماعية إلى مجريات العولمة ومرجعياتها، ويفرض إعادة ترتيب علاقاتنا في الشرق والغرب وفق سننه، دون أن نعي أو نقدّر عواقب ذلك، حيث إنّ الشعوب لا تبالي عادة بإظهار هويتها إلا في اللحظات الحاسمة، لحظات وهنها وجراحاتها، وحينما تشعر بتهديد هويتها جدياً. ويزعم المسكيني أن التعويل على التنوير المتساوق مع وعود التنمية والاستقلال والديمقراطية، الذي وُعدت به البشرية، منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر، لم يكن تنويرياً ولا شمولياً، وأن التنوير والعلمنة، لم يكونا إلا ضرباً من ضروب الإصلاح الديني، الذي أُطلق عليه مجازاً مصطلح التحديث والعقلنة. وإزاء هذه الخيبة يفاجئنا المسكيني، بتبريره العنف باسم الدين الممارس على أيدي الجهاديين المسلمين، بأنّ من يمارسه، إنما يختبر حقه بالانتماء إلى هوية واسعة النطاق، بديلة عن الثقافة الغربية المستوردة!!
ومثل هذا الموقف المأزوم الذي يتحرّى عن الهوية الملتبسة بين الإيديولوجيات المتخاصمة، وبين الشرق والغرب، ليس موضوعاً مستجداً، بل ما زال ماثلاً في أذهان العرب المحدثين، منذ حملة نابليون بونابرت على مصر، وتفكيك شيفرات اللغة الهيروغليفية. وقد اتخذ مسارات متعددة، أهمها ما أعقب الحرب الثانية، من صراع إيديولوجي، أو ما عُرف بالحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، حيث انشقت صفوف المثقفين العرب إلى محورين متناقضين. وكما استطاع الاتحاد السوفياتي التغلغل في أوساط المثقفين في الدول المستقلة حديثاً باسم التحرر من الاستعمار والظلم السياسي، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية دمجت في أسلوب تعاطيها مع النخب الفكرية والأدبية العربية الثقافةَ بالتنمية الاقتصادية، عبر برنامج الرئيس هاري ترومان الذي أطلقته عام 1949 بهدف تقديم المساعدة التقنية للدول النامية، تحت عنوان مساعدة الشعوب الحرة، في كفاحها لتحسين ظروفها الاقتصادية، لا سيما تدريب المزارعين. وعُرف في لبنان هذا المشروع باسم "النقطة الرابعة" وهي منطقة بقاعية على طريق بلدة رياق.
واضطلعت الاستخبارات الأميركية بدور ثقافي، إذ قامت بأعباء تمويل طباعة الكتب، وإنشاء الصحف والمجلات الموالية لها. وقد وصلت المواجهة الثقافية بين الشرق والغرب، إلى دقائق التباينات الأسلوبية التي تفرّق بين نمطي الكتابة، عند الطرفين، حيث نحت موضوعات مجلة "شعر" المحتسبة على الغرب، إلى أسلوب الشعر الحر، المنطوي على ترجمة المشاعر الذاتية، والهواجس الشخصية، بصوره الغرائبية، وتراكيبه اللغوية الفريدة. وفي المقابل آثر محررو مجلة "الآداب" على سبيل المثال، الكتابةَ بوحي من النزعة القومية المتأثرة بالموجة الناصرية والاشتراكية حينذاك، وتبني قواعد الأسلوب الكلاسيكي، والتزام قضايا الشعوب العربية، والعالم الثالث.
كما عملت منظمة الحرية الثقافية الأميركية، على نشر مجلة "المختار" التي ذاع صيتها، وتوقفت عن الصدور، منذ أعوام قليلة. ويمكن رصد مثل هذه التفاصيل الدقيقة من السجالات والمنافسات الثقافية، في كتاب: "الحرب الباردة الثقافية" للباحثة البريطانية فرانسيس سوندرز.
أما ما سماه المسكيني القراءة الديكولونيالية، فهي رافد من روافد تيار سرديات ما بعد الاستعمار الذي رسمت خطوطه العامة، كتابات فرانز فانون، وادوارد سعيد، وهومي بابا، وغاياتري سبيفاك، ولا سيما، محاضرات أنيبال كويخانو، أحد مفكري أميركا اللاتينية، الذي كرّس مفهومَ التهميشِ، والتبعيةِ المعرفية وعلاقتها بالإمبريالية، وفرضِ النظام العالمي على الشعوب، ووضع موارد البلاد المستقلة حديثاً، تحت سيطرة الأقلية المتحكمة في قراراتها، وخلق شبكة من المصالح الخارجية التي ترتبط بالمركز الإمبريالي، والتي تفضي إلى استلحاق اقتصادي، وقمع ثقافي ممنهج يتصل بآليات انتاج المعرفة، وأنظمتها، وأنماطها، ورموزها، حتى أضحت الثقافة الأوروبية الأميركية نموذجاً ثقافياً كونياً، وشرطاً من شروط إعادة انتاج تلك المجتمعات، على الصورة التي تتكفل بصياغة الذات التي تحاكي الأنظمة المعرفية المهيمنة، وطرائق تفكيرها. والغرب وحده يتمتّع بمهارة تقديم مصالحه، وتمثيلها بوصفها تعبّر عن مصالح الإنسانية بأسرها. ورغم تحيّزاته وتحاملاته ومواقفه المنحازة. فلا غنى عن استلهام أدوات الغرب التحليلية، كما فعل ادوارد سعيد، في كتابه "الاستشراق" حيث تبنى ترسانة ميشال فوكو الفلسفية عن مفهوم بناء السلطة، ليفكك بواسطتها خطاب الغرب نفسه.
وتكمن نقطة القوة التي تتمتع بها الثقافة الغربية الحديثة التي تتحكم بخيوط هذه الشبكة، في مرونتها، وقابليتها لأي نقاش سجالي داخلها، حول أي مشروع أو مبادرة. فالحقيقة التي تتجلى في متن العقل الغربي، لا تخرج من دماغ مفكر ما، أو مرشد روحي، أو حزب. ولا تنبثق على حين غرّة، كرؤيا مبهرة ومفاجئة. إنما هي ثمرة تلاقح عقلي عميق، وعصف فكري مديد، على ما يقوله رينيه جيرار في رسالته إلى ريجيس دوبريه (كتاب: ماذا تبقى من الغرب).
تنحصر الإشكالية المزمنة عندنا، في غياب الاعتراف بضعفنا وهواننا، وهي إشكالية سيكولوجية معروفة، لدى الشعوب المغلوبة، قديمها وحديثها، والتي تمر بمحن مماثلة، وترفض الإقرار بقوة خصومها، وضرورة مراجعة العوامل التي أفضت إلى هزيمتها. والشواهد التاريخية تدل على أن الأمور غالباً ما تؤدي بمرور الوقت، إلى الرضوخ إلى ما آلت إليه الأوضاع، واستقرت عليه الموازين، من رجحان كفة الغالب على المغلوب، ومن ثم تبدأ عملية التماهي البطيئة معه، والاقتداء به، على ما ذهب إليه ابن خلدون، الذي فهم بعمق آليات الهيمنة الثقافية والنفسية وتشكّلها، في ظل الغلبة السياسية والعسكرية، لشعب على شعب آخر. وتتجلى غلبة القوي، عبر حالات كثيرة، مثل اقتباس رموزه، وأزيائه، وطرائق حياته، ووسائل رفاهيته، وأنماط تفكيره، وأساليب عمله. وسبق أن ذكرت مصادر السرديات التاريخية للشعوب المغزوّة، مثل هذه الذرائع والمزاعم، التي كان يتذرع بها المهزومون لتبرير هزيمتهم. وهذا عين ما حدث مع الشعوب التي هزمها العرب عهد ذاك.
وفي هذا السياق، يشير باتريك هايني في كتابه "إسلام السوق" إلى أن المسلمين المعاصرين يسترجعون اليوم الأسلمة التي فقدوها، مكسوة بثوب جديد، يرتكز على قيم ومفاهيم تحكم المجتمعات الحديثة المعولمة، ويتصالح فيها نمط من التديّن المنفتح والمتخفف، مع علمنة الفضاء غير المقدس، من خلال إيجاد بدائل ملائمة للباس الإسلامي التقليدي، مثل الأزياء النسائية الملونة والمريحة والمحتشمة، وارتداء القبعة المزيّنة والملونة، بديلاً للحجاب، وتبني عادات جديدة في الأكل والمشرب، وتعزيز شعور الشاب المسلم بالفردانية، وروح المغامرة التجارية التي تشجّع عليها الاقتصاديات المتطورة.
