الأحلام الاستثنائية تبدأ بخاطر، والأفكار المستحيلة لا بد لها من إرادة عفية حتى تتحول إلى حقيقة، في السادس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر العام 1959 تغنت كوكب الشرق أم كلثوم من ألحان رياض السنباطي وشعر عزيز أباظة بقصيدته الشهيرة "قصة السد" التي يقول مطلعها: كان حلما فخاطرا فاحتمالا، ثم أضحى حقيقة لا خيالا في وصف رحلة بناء السد العالي جنوب مصر منذ أن كان مجرد خاطر في النفوس حتى تحول إلى واقع ملموس على أرض مصر، وها هم المصريون على موعد مع حلم استثنائي آخر حين تشرئب أعين العالم بعد ساعات قليلة لتتوقف صباح أمس السبت الأول من تشرين الثاني أمام مشهد انتظروه أكثر من ثلاثين عاماً قبل أن يعطي الرئيس المصري عبد التاح السيسي إشارة البدء بافتتاح المتحف المصري الكبير أضخم متاحف العالم من حيث المساحة والمعروض والذي يحكي تاريخ الحضارة المصرية القديمة في كافة مراحلها حتى العصر البطلمي مع بداية التقويم الميلادي قبل أكثر من ألفي عام.
هناك.. في هذه البقعة الساحرة التي تطل على اهرامات الجيزة يحرسها تمثال أبي الهول العتيد، اختار المصريون تحقيق حلمهم بتشييد متحف ضخم يضم كنوز الحضارة الفرعونية القديمة يكون بديلا عن المتحف الحالي بميدان التحرير (الأنتيكخانة) بعد أن ناءت ساحاته وقاعاته عن استيعاب آلاف القطع الأثرية لا سيما مع تتابع الاكتشافات الأثرية المتلاحقة، وعلى مساحة تصل إلى خمسمئة ألف مترا مربعا تجتمع أكثر من مائة ألف قطعة أثرية فرعونية يؤمها تمثال الملك رمسيس الثاني بارتفاعه الشاهق الذي يتجاوز طوله أحد عشر مترا ووزنه ثلاثة وثمانون طنا، والذي تم نقله من ميدانه الشهير بقلب القاهرة في كانون الثاني يناير2006 في موكب مهيب ليكون أول قطعة أثرية تُنقل إلى المتحف الجديد، كما يضم ذلك المتحف 5398 قطعة من كنوز الملك توت عنخ أمون تجتمع للمرة الأولى في مكان واحد منذ أن اكتشف العالم البريطاني هاورد كارتر مقبرة الملك الصبي في نوفمبر العام 1922، كذلك يضم مجموعة الملكة "حتب حرس" أم الملك خوفو باني الهرم الأكبر أحد عجائب الدنيا القديمة، وأيضا متحف مراكب الملك خوفو نفسه، ومقتنيات من عصور ما قبل الأسرات، فيما يتحدث المنظمون للمتحف عن مفاجأة يعدونها للزوار عبارة عن قطعة أثرية عمرها سبعون ألف سنة سوف تعيد النظر في كثير مما هو مستقر عن تاريخ الحضارات الإنسانية القديمة.
ويستهدف المتحف المصري الكبير بعد افتتاحه استقبال مئة ألف زائر يوميا، أو خمسة ملايين سائح سنويا، وبحسب مصطفى وزيري الأمين العام الأسبق لهيئة الآثار المصرية فإن المتحف الكبير سوف يحدث نقلة نوعية في خريطة السياحة المصرية داخل القاهرة الكبرى حيث سيحتاج السائح إلى يوم إضافي في برنامج رحلته كي يستوعب مقتنيات المتحف المتعددة التي يتم عرضها وفق أحدث تقنيات العرض المتحفي بالعالم، وقد راعى مصممو المتحف أن تحقق أنشطته اكتفاء ذاتيا في كلفة تشغيله وصيانته ليس فقط من خلال القيمة المالية لتذكرة الزيارة، وإنما عن طريق مجموعة من الأنشطة الثقافية والترفيهية، وبحسب الموقع الرسمي لوزارة السياحة والآثار المصرية فإن المتحف يضم بين جنباته أماكن خاصة بالأنشطة الثقافية والفعاليات مثل متحف للأطفال، مركز تعليمي، قاعات عرض، سينما، مركز للمؤتمرات، وكذلك العديد من المناطق الخدمية والتي تشمل محالا تجارية، كافيتريات ومطاعم، بالإضافة إلى الحدائق والمتنزهات، ولم يفت مصممو المتحف الربط بينه وبين أهرامات الجيزة نفسها من خلال ممشى سياحي وترفيهي بمسافة 1500 متر يحوي مجموعة من الأنشطة يمكن للزائر متابعتها سيرا على الأقدام أو من خلال عربات كهربائية أعدت خصيصا لهذا الغرض.
أما عن استعدادات الحكومة المصرية لافتتاح الحدث الكبير فبحسب المتحدث الرسمي لمجلس الوزراء من المتوقع أن يحضره أربعون زعيما دوليا إلى جانب العديد من رموز الثقافة والآثار في العالم، وربما كان ذلك سببا في قرار الحكومة منح كافة العاملين بالدولة وطلبة المدارس والجامعات إجازة رسمية في السبت الأول من تشرين الثاني تزامنا مع افتتاح المتحف من أجل تأمين الحدث الكبير الذي توقع له الكثيرون أن يفوق موكب المومياوات الذي أقيم بمدينة الأقصر قبل أعوام، أيضا أعدت محافظات مصر المختلفة شاشات عرض ضخمة في الميادين الكبرى لنقل الحدث الهام، كما أوعزت وزارة الخارجية المصرية إلى سفاراتها بالخارج بوضع شاشات عملاقة داخل السفارات لنقل الحدث، فيما وجهت وزارة التعليم بأن تستمر الاحتفالات بالمدارس حتى السادس من تشرين الثاني.
وقد مرت رحلة المتحف المصري الكبير بالعديد من المحطات، بدأت العام 1835 في عهد الوالي محمد علي مؤسس مصر الحديثة حين قرر إنشاء متحف يضم مجموعة كبيرة من الآثار المصرية، واختار مقرا لها بحديثة الأزبكية بقلب القاهرة، ثم تم نقله إلى القاعة الثانية بقلعة صلاح الدين، حتى فكر عالم الآثار الفرنسي أوغست مارييت أحد مسؤولي اللوفر في إنشاء متحف على نيل القاهرة في منطقة بولاق، لكن مواسم الفيضان قبل بناء السد العالي كانت تمثل خطرا داهما لكنوز مصر، ومن هنا تم نقله مؤقتا إلى قاعة بقصر الخديوى إسماعيل بالجيزة قبل التفكير في إنشاء المتحف المصري الحالي بميدان التحرير (ألنتيكخانة) الذى تم وضع حجر أساسه العام 1897، وتم افتتاحه في العام 1902 تحت إشراف عالم فرنسي آخر هو جاستون ماسبيرو في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، ومع تزايد عدد زائريه، ومع تعاظم عدد القطع الأثرية المعروضة فكر وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني سنة 1992 في إنشاء المتحف الكبير، وعرض على الرئيس الأسبق حسني مبارك أكثر من بديل لموقع المشروع، وتم اختيار قطعة الأرض الحالية مقابل أهرامات الجيزة، فأصدر مبارك أول قرار بشأن المتحف الجديد يتعلق بتخصيص قطعة الأرض المطلوبة، وفي العام 2002 تم وضع حجر الأساس للمشروع، وبدأت الخطوات العملية للتنفيذ تحت رعاية منظمة اليونسكو والاتحاد الدولي للمهندسين المعماريين حيث أعلن عن مسابقة معمارية دولية لأفضل تصميم للمتحف، وقد فاز التصميم الحالي المُقدم من شركة هينغهان بنغ للمهندسين المعماريين وهو تحالف صيني أيرلندي مقره العاصمة الأيرلندية دبلن، والذي اعتمد تصميمه على أن تُمثل أشعة الشمس الممتدة من قمم الأهرامات الثلاثة عند التقائها كتلة مخروطية هي المتحف المصري الكبير.
وقد بوشر البدء في بناء مشروع المتحف في أيار 2005، حيث تم تمهيد الموقع وتجهيزه، وفي العام 2006، أُنشئ أكبر مركز لترميم الآثار بالشرق الأوسط، خُصص لترميم وحفظ وصيانة وتأهيل القطع الأثرية المُقرر عرضها بقاعات المتحف، ورغم ما تعرض له المتحف القديم القائم في ميدان التحرير من محاولات سلب ونهب أثناء أحداث الخامس والعشرين من كانون الثاني 2011 الأمر الذي باتت معه ضرورة الإسراع في إنجاز مشروع المتحف الكبير فقد تعطل المشروع برمته في الفترة ما بين 2011 و2014 على أثر حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي شهدتها مصر قبل أن يعود الاهتمام به بداية من العام 2015، وقد تعاقب على المشروع عدد كبير من الوزراء المسؤولين عن الثقافة والآثار والسياحة، فيما بذل خالد العناني وزير الآثار الأسبق الذي بات الأمين العام الجديد لمنظمة اليونسكو مجهودا كبيرا حتى خطا به خطوات واسعة في سبيل تحقيق الحلم الكبير، وربما كانت تلك المجهودات واحدة من مصوغات ترجيح كفته في اختياره للمنصب الدولي الرفيع، وكانت الحكومة المصرية قد حددت تموز يوليو 2025 موعدا لافتتاح المتحف الكبير، غير أن المواجهات العسكرية بين إسرائيل وإيران في ذلك الوقت واضطراب أحوال منطقة الشرق الأوسط أرجأت الافتتاح إلى الأول من تشرين الثاني.
