نيرودا: أعترف بأنني قد عشت

فوزي ذبيانالسبت 2025/11/01
GettyImages-615289660.jpg
ليست الكلمات، بحسب بابلو نيرودا، مجرد وسائل لتبادل أو لعرض الأفكار، إنما هي مستودع لا نهاية له لكل ما حدث وما قد يحدث
حجم الخط
مشاركة عبر

على الرغم من تدفّق الأحداث التي يرويها الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في مذاكراته "أعترف بأنني قد عشت"، فإننا مع هذه المذكرات إزاء تحيّز للكلمات يفوق الوصف، وكأننا مع هذا الشاعر الصاخب حيال عالم أصلي هو عالم الكلمات وعالم هامشي هو عالم الوقائع والأحداث حتى يخيّل لقارئ هذه المذكرات (هي قراءتي الثالثة لها) أنه يمكن استبدال "أعترف بأنني قد عشت" بعبارة هائلة لطالما تغنّى بها كتّاب القرون الوسطى والتي تقول Scribo, ergo sum (أنا أكتب إذن أنا موجود).

 

حسب مذكرات نيرودا، الإنسان لا يستوفي حق العيش في هذا العالم إلا عبر الكلمات، والكلمات في سياق هذه المذكرات الصاخبة هي تارة بمثابة تصدّ لقسوة حدث ما، وتارة أخرى ترى الكلمات أقرب إلى المواكبة اللطيفة لحدث آخر، لكنها في كل الأحوال سيدة الحدث وموئل فضّه ونشره وتفكيكه وإعادة ترتيبه بهذا الشكل أو بذاك. فكلمات نيرودا كما بثّها في مذكراته هي وقائع أكثر واقعية من الأحداث. ليست الكلمات في هذا الصدد مجرد قواقع معجمية (مع احترامي لهواية نيرودا بجمع القواقع والأصداف)، لكنها بالأحرى دروب عتيقة تشيخ في حضرتها كل أحداث العالم. فأن يجد المرء نصيراً لوجوده في العالم عبر محض الكلمات، فإن الأمر عندئذ يتجاوز جلّ التصورات الشائعة عن الكلمات ووجهات استعمالها منذ نطق الحرف الأول حتى اليوم.

 

يورد نيرودا في مذكراته أنه دخل بطريق الصدفة أحد محلات الأنتيكا في باريس واختار قطعة ليست معروضة للبيع، إلا أن صاحب المحل وافق على بيعها له فقط لأنه من تشيلي، بلد بابلو نيرودا (لم يخبر نيرودا الرجل بأنه نيرودا) ...أنا كلماتي، أنا محض كلماتي، قال نيرودا وذلك عطفاً على هذه الحادثة.

 

إن تقصّي الكلمات، كما يبثّنا نيرودا في هذه المذكرات الرائعة، هو تقصّ للرغبة بالوجود في العالم. فليس العيش هو فقط خوض غمار الأحداث، إنما العيش هو في العمق خوض غمار الحكي عن هذه الأحداث وما يشوب هذا العالم من آلام أو يداخله من أفراح... فشساعة الوجود تكمن إذن في نطق الكلمات، في زرعها فوق الورق كرواية أو قصص أو قصائد أو غيرها من أشكال التعبير. إذا كان صديق نيرودا اللدود، خورخي لويس بورخيس، صرّح يوماً بأن الكلمات هي أعظم اكتشافات حياته فإن نيرودا، وإن لم يقلها جهاراً، تراه يهمس عبر مذكراته أنه هو الكلمات، معاجم العالم وكل تلك الألسنة المتداخلة اللهجات واللغات... أنا، يقول نيرودا (مبتسماً، كما أخاله) كل ذلك الصخب المدوّن فوق كل كتب العالم.

 

يتوقف نيرودا ملياً عند تلك القدرة التنبؤية للكلمات مستعرضاً، تارة بالمواربة وتارة بالمباشر، فكرة مفادها أن تاريخ العالم، المنسي منه والمدوّن، الصحيح أو الكاذب، مستقر في جذور الكلمات. ليست الكلمات، حسب السياق النيرودي، مجرد وسائل لتبادل أو لعرض الأفكار، إنما هي مستودع لا نهاية له لكل ما حدث وما قد يحدث... إن الكلمات هي درب كل صخب وكل أنين وكل صمت. يأبى نيرودا في "أعترف بأنني قد عشت" أن ينحو بالكلمات منحى المجاملات اليومية أو تلك المبادلات الرخوة حيث "رائحة العث التي هي أشبه برائحة أحاديث ميتة". كلا، إن الكلمات هي طاقة هائلة ترى حتى الموت عبرها مفعماً بكل ضروب الحياة. إن مزاحمة الأحداث لبعضها البعض وتكدسها بين دفتي كتاب "أعترف بأنني قد عشت" تسوق المتلقي إلى الظنّ بأن نيرودا هو محل تحيّز إلى محض استعراض الأحداث وما قد عايشه في الحياة، إلا أن معاينة كل من هذه الأحداث، كما بثّها، يرمي بالقارئ في متون تصورات بابلو نيرودا حيال علاقة العالم بكلماته. 

 

كل كلمة في العالم هي بمثابة شيفرة ثقافية قائمة بذاتها ولها وهجها التاريخي الخاص إذا ما أردنا أن نستعير جوليا كريستيفا، وليست الكلمات في هذا الصدد إلا تداخل عديد العوالم الثقافية وما تكتنزه هذه العوالم من معلوم ومجهول، من مألوف وغريب ومن ثابت ومتحول ومن مصنّف أو داشر فوق كل حدود التعريفات والتصنيفات. على الرغم من محايثة ما تقوله كريستيفا لفكرة نيرودا عن الكلمات، إلا أن هذا الشاعر المغامر لا يستجيب في لعبة سرده لحياته إلى أي نظرية بعينها من تلك النظريات التي تطرقتْ إلى بنية اللغات أو إلى تاريخ الكلمات أو إلى تداخل المعاجم والألسن والمفردات. 

 

لكنه، وعبر سرد سريع مترع بكم هائل من الأحداث الفردية والعالمية، تراه يسوق العالم عبر الكلمات، عبر تلك الرموز التي تأبى الخضوع إلى أي نظرية على الإطلاق، لكنها تخترق بمتعة هائلة كل ما قيل عنها وما سوف يقال. إن شبق الأحداث وفجاجاتها أو طراوتها، كما ساق الشاعر التشيلي هذه الأحداث في مذكراته، هي في مضمونها الأعم، انعكاس مباشر لشبق الكلمات، لهدأة الكلمات، لانسيابها وتشابكها وتقدمها وتراجعها وصولاً إلى فجورها وانقضاضها الذي لا يستكين. فالـ "أنا أكتب إذن أنا موجود" ليست مجرد استراتيجية في الكتابة أو في سرد الذات، إنما هي استراتيجية مبعثها الأول احتواء العالم وصياغته، بل الإمساك بتلابيبه ثم ترتيبه بما يتلاءم مع رغبة القول، رغبة القص، رغبة رصف الذات عبر رصف الكلمات. فإذا كان ماريو خمينيث هو ساعي بريد نيرودا في رواية أنطونيو سكارميتا الشهيرة، فإن نيرودا هو ساعي بريد الكلمات في مذكراته مترامية الأمكنة والتواريخ والوقائع والخيال.

 

يطالعنا نيرودا في إحدى قصائده: 

بعد كل شيء، أريد أن أحبكِ

...

من دون أن أراكِ

من دون أن تصلي

كنتِ باستمرار 

تتنفسين هنا، قربي.

 

لست أدري ما يقصده بابلو نيرودا بهذه الكلمات، ولمن يوجهها بالتحديد. إنما سبر أغوار حياته كما بثّ هذه الحياة في "أعترف بأنني قد عشت"، يجيز لي كمتلق حر إلى أقصى الحدود (إلى حدود الصفاقة ربما)، أن أقول إن نيرودا يصارح الكلمات بعشقه عبر هذه الكلمات. 

 

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث