كيف يمكن أن تصنع وثائقياً عن مدينة لم تعد موجودة؟ أو بالأحرى بعدما أقتُلع أبطاله وصنّاعه منها؟ في أواخر العام 2022، بدأ تصوير فيلم "الخرطوم"، لكن الحرب التي اندلعت بين قوات الجيش السوداني وميلشيات الدعم السريع في نيسان/أبريل 2023، فباغتت صناعه مثلما أخدت سكان العاصمة السودانية جميعهم على حين غرّة. وبعد اكتمال معظم العمل على الفيلم، الذي كان المفترض به أن يدور حول الخرطوم في ظل الثورة السودانية والانقلاب العسكري اللاحق عليها، كان على صنّاعه البدء من جديد، بسردية لم يختاروها بل فرضتها عليهم الانعطافة المأسوية للأحداث. وهذه المرة بعيداً من مدينتهم، ومن نيروبي التي لجأ إليها أبطال الفيلم وصنّاعه، ضمن أكثر من عشرة ملايين من السودانيين النازحين داخلياً أو إلى الخارج منذ اندلاع المعارك.
لا تقاطع الحرب سير الحياة اليومية وحدها، بل تتحدى الشكل الفني أيضاً. يوثق "الخرطوم" الحرب عبر تتبع الحياة اليومية لخمسة أشخاص، هم: خادم الله، الأرملة الشابة القادمة من جبال النوبة وتعمل على بسطة شاي يجتمع حولها المشاركون في التظاهرات، لوكين وويلسون وهما طفلان يعملان في جمع القناني البلاستيكية، ومجدي وهو موظف حكومي ومربّي حمام يؤرقه أنه كان جزءاً من الماكينة البيروقراطية للنظام الساقط، وأخيراً جواد، الشاب الذي تطوع أثناء اشتباكات الثورة لنقل الجرحى من الخطوط الأولى على دراجته البخارية. ويعمل الفيلم كل من تلك القصص، واحد من أربعة مخرجين سودانيين شباب، هم: أنس سعيد وراوية الحاج وإبراهيم سنوي ويتمية محمد أحمد، وذلك بمشاركة المخرج البريطاني فيل كوكس، الذي شرع في تصوير فيلم عن السودان لصالح جريدة "الغارديان" في العام 2021، وقاده هذا إلى تأسيس مجموعة عمل من المواهب السينمائية الشابة تحت عنوان "مصنع أفلام السودان".
يعاد سرد اللحظات الأولى لاندلاع الحرب أربع مرات، وفي كل مرة، تعيد الشخصية الساردة تمثيل المشهد بفظاعاته، بمساهمة من المشاركين الآخرين، وذلك بلغة أقرب إلى الشعرية منها إلى التقرير. في تلك الاستعادة شبه الممسرحة لأحداث وأماكن فُقدت أو أضحت بعيدة جداً، ثمة محاولة للإمساك بالذاكرة ومواجهة صدمة الحرب وخساراتها في آن. بشكل متعمد، يتم كسر الإيهام، حيث نرى المخرجين في الشاشة وهم يتدخلون في المَشاهد ويعطون تعليماتهم، أو نرى لحظات انخراط أبطال الفيلم في البكاء عند لحظات الذروة المأسوية أثناء إعادة تمثيلهم للأحداث، وبعدها نشاهد العاملين في الاستديو وهم يغادرون أماكنهم وراء الكاميرا ليتعانقوا جماعياً مع الشخص الباكي.
وأحيانا نرى المشهد وهو يُبنى أمامنا، قطعة قطعة، بتقنية الخلفية الخضراء، حين يُطلب من أبطال الفيلم أن يتذكروا المشهد الواقعي، وتضاف عناصره الواحد وراء الآخر في الشاشة أمامنا في شكل صور أو لقطات وثائقية أو مقاطع كرتونية. الحائل الوهمي بين ما وراء الكاميرا وأمامها، يتداعى بفعل الحرب وبفعل المأساة المشتركة والرغبة في التداوي الجماعي. التفريق بين التسجيلي والتمثيل لا يبدو ضرورياً، والمسافة بين الواقعي والخيالي تنمحي، حيث يظهر لوكين وويلسون وهما يجوبان شوارع الخرطوم على ظهر أسد بينما يطير مجدي وجواد في سمائها، كل على طريقته. في ذلك البُعد الفانتازي، تصبح العودة إلى مدينتهم المحبوبة، ممكنة وفورية. هنا، لا يكتفي الفيلم الوثائقي بأن يكون تسجيلاً للواقع عبر تذكره وإعادة تشييده، بل لعبة للخيال تسمح بتجاوزه.
لا يقدم "الخرطوم" رثاء للمدينة، كما يُتوقع من وثائقي عن الحرب، بل على العكس، هناك احتفاء سخي بها وبتنوعها وبماضيها وبالحيوات التي سكنتها. وينعكس هذا الاحتفاء في كرنفال من الرقص والغناء والضحك والحنين والإيقاعات البهيجة للموسيقى السودانية. وبفضل هذا كله، يترك الفيلم وراءه شعوراً دافئاً بالأمل في أن هذه الخرطوم يمكن استعادتها يوماً ما.
(*) يعرض الفيلم حالياً في دور العرض بلندن
