ً"معركة تلو أخرى": الثورة يوتوبيا مهزومة..لكنها لا تُروّض

محمد صبحي الخميس 2025/10/30
ماتت الثورة، فلتحيا الثورة!
ماتت الثورة، فلتحيا الثورة!
حجم الخط
مشاركة عبر

في النصف الثاني من فيلم "معركة تلو أخرى" للأميركي بول توماس أندرسون، ثمة مشهدٌ تطارد فيه ثلاث سيارات بعضها البعض على طريقٍ جبلي، في إيماءة جانبية يُضفي بها أندرسون لمسةً مميزةً على المطاردة الشهيرة في فيلم "بوليت" (1968، بيتر ييتس)، إن لم يتفوّق عليها، محولاً إياها سيمفونية كوميدية على التلال. صعوداً وهبوطاً، ترصد كلٌّ منها الأخرى ثم تغيب عن الأنظار مجدداً.

 

يتمتع الفيلم بتلك الطاقة الرائعة من البداية إلى النهاية، مدفوعةً باستمرارٍ بموسيقى جوني غرينوود التصويرية شديدة النشاط. الفيلم حرفياً معركة تلو أخرى، صراعٌ مستمرٌّ لجماعة مقاومة سريّة ضد دولةٍ مُسلّحةٍ في شخص العقيد المتطرّف ستيفن لوكجو (شون بنّ، بتجعيداتٍ في الوجه وقامة لا يُنسى). في هذا الفيلم المُقتبس من رواية توماس بينشون "فينلاند" الصادرة في 1990، يموضع أندرسون الثقافة المضادة لستينيات القرن الماضي في عصرنا، من دون ذكر أي أسماء أو شخصيات معاصرة. وبينما تدور أحداث الرواية في العام 1984، خلال إدارة ريغان الثانية، وتركّز على "الحرب على المخدرات" سيئة السمعة، يُحوّل الفيلم تركيزه إلى الحرب على المهاجرين، الشعار الحاشد الرئيسي لليمين المتطرّف العالمي. أو بالأحرى، إلى مقاومة هذا التوجّه المعادي للأجانب والفاشي.

 

بمزيجٍ لافت من الكوميديا السوداء والإثارة والأكشن والدراما الاجتماعية، ينجز السينمائي البارز ملحمة أميركية حول الثورة والثورة المضادة وأميركا ترامب التي تعادي الأقليات وتسحق الفقراء. محور كلّ هذا الصخب والفكاهة البصرية المُصوّرة ببراعة، يمثله علاقة مضطربة بين أبّ وابنته: بوب (ليوناردو دي كابريو)، مُدخّن الماريجوانا الثوري، والمراهقة ويلّا (الصاعدة بقوّة تشيس انفينيتي).

 

يبدأ الفيلم قبل 16 أو 17 عاماً مع والدتها، بينما تتجسّس بيرفيديا بيفرلي هيلز(تيانا تايلور، في أداءٍ قوي ولافت)، وهي تسير بخطى سريعة من طريق سريع مرتفع، إلى مُعسكرٍ، حيث ستُحرّر هي وأعضاء آخرون من حركة "الفرنسية 75" مهاجرين مسجونين في ذلك المساء. بيرفيديا امرأة قوية بالفطرة، من عائلة ثورية جابهت ظلم النظام الأميركي لعقود، وهي القوة الدافعة والمحور الرئيسي لكلٍ من المقاومة ضد إرهاب الدولة والجزء الأول من الفيلم. في وقتٍ لاحق من الفيلم، تقول والدة بيرفيديا المسنّة أن بوب غير متوافق تماماً مع ابنتها العدوانية. لكن أحداً لا يخبر بيرفيديا بما تشعر به أو كيف تشعر. بالإضافة إلى ذلك: بوب خبير متفجرات. إنه يفجّر الأشياء، وهي تحبّ ذلك.

 

 

ليس الأمر أن الفيلم لا يمكن التنبؤ به، مثلما لا يُعرف إلى أين سيقود المتفرّج، لكن "معركة تلو أخرى" يتقدّم دائماً على المتفرّج بخطوة. فقط عندما تحصل على اتجاهاتك في موقعٍ ومشهد جديدين، يبدأ تسلسل أكشن جديد مع مطاردات وأنفاق خفيّة وعمليات اختطاف أو بينيسيو ديل تورو، الذي، بصفته سينسي سيرجيو (مدرّب الكاراتيه والزعيم الاجتماعي)، يكشف فجأة عن نفسه كناشط مستعد لأيّ شيء. تصعد الكاميرا وتنزل الدرج وتجري وتسقط مع الشخصيات. ارتحالات مدوّخة ورائعة. يصعب تحديد كيفية نجاح أندرسون في هذا العمل بدقّة - وهذا في حدّ ذاته إطراء كبير - لكن نبرة الفيلم لا تشبه أي شيء رأيته من قبل. يتعلق الأمر بالحرّكة المستمرة لجميع مكوّنات هذا المحرّك السحري، وذلك الارتباك الدقيق والمستمر، وموسيقى غرينوود التصويرية المبتكرة، وأكثر من ذلك.

 

مثلاً، لا يستخدم "معركة تلو أخرى" سوى القليل جداً من اللقطات التمهيدية؛ لقطات عامّة تخبر المشاهد: حسناً، نحن هنا، وهذا هو الوضع. بينما حقيقة الأمر كما لو أن أندرسون يقول للمتفرّج: "اركض، وحاول أن تفهم كيف وماذا أثناء ركضك". نجح في صياغة لغة كدنا، كمتفرّجين، التحدّث بها، لكننا لم نعرف الكلمات المناسبة لها. لا يُمكن وصف ذلك إلا بالموهبة المبدعة.

 

بعد 16 عاماً، إذن. ابنته ويلّا لا تزال ثابتة مثل أمّها بيرفيديا، رغم أنها لم تعرف والدتها قطّ. ظلّ بوب يشرب ويدخّن طوال تلك السنوات الـ16 بعد فقدان حبيبته، وفقدَ كلّ الاحترام الذي تكنّه ابنته تجاهه. قد يبدو هذا وضعاً مدجّناً وأليفاً، لكن حتّى هنا، لا يتوقّف الفيلم أبداً. ولأن الرجال الصغار سيبقون رجالاً صغاراً، لم ينس لوكجو العنيد أن بوب وبيرفيديا كانا منقذيه طوال تلك السنوات. منذ تلك اللحظة، ينتقل الفيلم إلى مستوى أعلى.

 

"معركة تلو أخرى" فيلم هزلي رائع، لكنه أيضاً سؤال جدّي. في أذهاننا، الثقافة المضادة أثرٌ تاريخي، ثقافة من نصف قرن مضى. حتى بوب، الذي فجّر كل شيء حرفياً ذات مرة، استلذّ بحياته حتى الموت. لكن ألا تزال روح بيرفيديا القتالية بالقدر نفسه من الأهمية؟ الفيلم جيّد جداً لدرجة أن بُعده السياسي يتلاشى نسبياً في الخلفية، لكنه بلا شكّ فيلم سياسي. لطالما اتسم تاريخ البشرية بالصراعات، بين القبائل والأمم والطبقات الاجتماعية والأعراق والأديان. في عصرنا، تتشابك كل هذه الصراعات ويتغذّى بعضها على بعض، ما يخلّق جواً دائماً من التوتّر. روح العصر هذه تجعل "معركة تلو أخرى" قوياً وراهناً. هنا ينطلق أندرسون في تأمّل في السينما، وبالأخصّ في الثورة باعتبارها يوتوبيا مهزومة لكنها لا تُروّض أبداً، يستحيل القضاء عليها، وبإمكانها الانتقال من جيلٍ إلى جيل، على أمل أن تحقّق عاجلاً أم آجلاً الانتصار المنشود.

 

لم يصنع أندرسون فيلماً فاشلاً قطّ، لكن لا يمكن القول إن كلّ فيلم بالقوة نفسها. "معركة تلو أخرى" بالتأكيد أحد أفضل أعماله. ربما يكون أفضل فيلم أنجزه على الإطلاق.

 

(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية والعالمية

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث