ما بين موروثٍ منسيٍّ وعولمةٍ موسيقيّةٍ جريئة، تصعد ريما خشيش بخفّةٍ وبراعة، السلالم الشرقيّة، فاتحةً ذراعيها وصوتها للعالميّة. هي فنانة التّراث والتّطوير معًا، معادلة صعبة أتقنتها على مرّ عقود، وهي تعيد اليوم ترسيخها مع استعدادها لإطلاق ألبوم "يا من إذا"، تكريمًا للملحن المصري فؤاد عبد المجيد. عمل ينسج ثنائية الوفاء والجرأة مع الجمال، وتُخرج عبره خشيش إلى النور كنوزًا موسيقيّة تذكّرنا بفقر بحثنا وثراء اكتشافاتها، وتدعونا لإعادة النظر في عراقة تراثنا ودهشة تجديده.
تتنوّع أعمال الألبوم بين الموشّحات التي تُقدَّم بصوتها للمرة الأولى، وتلك التي بعثت فيها الحياة بصياغة جديدة. من بينها يبرز موشّح "أشرق يا طلعة البدر" الذي تعيده إلى الضوء بلمسة عصرية، وموشّح "يا راعي الظبا" بلحن جديد على مقام الهزام، و"يا ذا الجمال الساحر"، الذي يتفرّد بتوزيع مشاغب على إيقاع التانغو، فيما يشكّل "يا من إذا"، وهو عنوان الألبوم، اكتشافًا فريدًا تقدّمه خشيش للمرة الأولى على مقام الزنجران.
أمّا "موشح يا منيتي" فكان بوابة العبور إلى الجمهور، إذ أطلقته ريما كإصدار منفرد (single) تمهيداً للألبوم الذي سيبصر النور كاملًا مع نهاية الشهر الحالي. وقد حظيت "المدن" بفرصة ثمينة للاستماع الحصري إلى بعض هذه الموشحات قبل صدورها، فاشتعل الفضول، واتسعت الأسئلة، وكان حوارنا مع ريما خشيش واجبًا لاكتشاف المزيد عن "يا منيتي" وبقية الألبوم.
-
"يا منِيَّتي" هو أول عمل يخرج إلى الجمهور من ألبومك الجديد. لماذا اخترتِ أن تطرحي هذا العمل تحديدًا كبوّابة للألبوم؟ وهل يمكن اعتباره مرآة لتوجّهاته العامة؟
* الألبوم يتضمّن عشرة أعمال، ودائمًا في الحفلات الصغيرة التي خصّصتها لعرضه أمام جمهور ضيّق كنت استهلّ الحفلة بـ"يا منيتي". حتى قبل اكتمال الميكساج، حين كنت أُسمِع أحدهم بعض المقاطع، كنت أبدأ بها أيضًا. بحثت لاحقًا عن السبب، واكتشفت أنه بسيط وعميق في الوقت نفسه: لأنني أحبّها جدًا، ولأنها تحمل شيئًا من العفويّة، وتمهّد لظهور الآلات الأربع التي سترافقني طوال الألبوم. هي تشبهه بطبعه، وتكشف ملامحه الأولى، لذلك بدت لي الأنسب لتكون السينغل الأوّل الذي يخرج إلى الناس. أغنية محبّبة على الأذن، تتّسم بالسلاسة، وتبثّ الروحيّة التي أردتُ للألبوم أن يخرج بها.
-
سمعنا موشّح "يا منيتي" بصوت عفاف راضي، بتوزيعٍ كلاسيكي لعمر خيرت يلامس روح المدرسة المصريّة في السبعينيات. في إنتاجك الخاصّ لهذا العمل، نلاحظ أنّك انطلقتِ من النصّ واللحن نفسيهما، لكن بتوزيعٍ مراوغٍ ومبتكر، كأنّك تفتحين الموشّح على أفقٍ موسيقيّ غير متوقَّع. ما الذي أردتِ قوله من خلال هذا الخيار؟ أهو مجرّد تحديثٍ تقنيّ، أم إعادة قراءة فكرية وجمالية للموشّح نفسه؟
* هي بالتأكيد رؤية مختلفة. لا أتعامل مع التوزيع كمجرّد تحسين تقني، بل كوسيلة لإعادة اكتشاف العمل من جديد، لذلك جاء التوزيع منفتحًا وحداثيًا، يحمل شيئًا من روح ال French chanson. "يا منيتي" بالنسبة إلي ليست موشحاً عادياً، بل لقاء قديماً جدًا وشخصياً. سمعتُها للمرة الأولى بصوت صاحبها الأصلي، وكنت آنذاك في الثالثة عشرة من عمري، وكان ذلك اكتشافًا حقيقيًا بالنسبة إليّ. أحتفظ حتى اليوم بتسجيل شخصي لتلك السهرة، ومنذ ذلك الحين حفظتُ أغاني فؤاد عبد المجيد بصوته العذب، يرافقه صديقه حمادة مدكور على العود، هذه التسجيلات ظلّت ترافقني لعقود. أحببت أعماله بصوته قبل أن أسمعها من أي مصدر آخر، وحين عدتُ إليها اليوم، لم يكن هدفي تقليد الماضي أو تحديثه فحسب، بل تقديمه برؤية تشبهني.
-
في الحديث عن ألبوم "يا من إذا"، اخترتِ أن يكون تحية كاملة للملحن والشاعر المصري فؤاد عبد المجيد، وهو اسم لا يحضر كثيرًا في الذاكرة الموسيقية المعاصرة. ما الذي يعنيه أن يكرّس فنان معاصر عملًا كاملًا لتحية ملحن من زمنٍ آخر؟
*يا ريت بعدو....يا ريت...كان حيكون مبسوط يمكن.. في الحقيقة، هذه الفكرة راسخة في عالمي، ففؤاد عبد المجيد رافقني منذ الألبوم الأول وحتى اليوم. راودتني منذ زمن، فكرة تقديم عملٍ يُهدى إليه، وها قد حان الوقت المناسب ليخرج هذا الإهداء إلى المستمعين.
-
فلنكشف لقرّائنا عالم "يا من إذا": ما التفاصيل التي ترغبِين في مشاركتها عن هذا الألبوم ورؤيتك الفنية فيه؟
* الألبوم يتألّف من عشرة موشّحات للفنّان المصري فؤاد عبد المجيد، كنتُ قد حفظتُها بصوته كما ذكرتُ سابقًا. بعضها يُقدَّم للمرّة الأولى حصريًا، فيما سبق نشر البعض الآخر. رافقني في العزف أربعة موسيقيين يعملون معي على الدوام، أضفى كلٌّ منهم بصمته وروحه الخاصة على العمل: مارتن أورنشتاين على الكلارينيت، خوان رودريغس على البيانو، توني أوفرووتر على الدوبل بيس، يوست لايبارت على الدرامز. وقد سجّلنا الألبوم خلال يومين فقط بعزفٍ وأداءٍ مباشر. أما التوزيع الموسيقي، فتناوب عليه توني أوفرووتر ومارتن أورنشتاين، وساهم عازف البيانو الشاب، ابن التاسعة عشرة، خوان رودريغس في توزيع عملين اثنين.
في الواقع، استغرق التحضير قرابة عامين كاملين، لا لتعقيد العمل فحسب، بل لأنّ الفريق كان في أمستردام بينما كنتُ في بيروت. بين الرحلات المتكرّرة والساعات الطويلة من التدريب والمراجعة، سعينا إلى وضع بصمتنا النهائيّة على كل موشّح ليخرج للجمهور بصورةٍ مميزة.
-
حين تصل الأعمال الشرقية عبرك إلى موسيقيين غربيين، لا بدّ أن يظهر تبايُن ما. كيف تسعين إلى ردم هذه الهوّة الثقافية ليخرج العمل الى المستمع بروحٍ واحدة؟
* صدقيني، الفجوة غير موجودة أصلًا، فبيننا طاقة انسجام عالية جدًا. عندما نقلت إليهم هذه الأعمال الشرقيّة، شعرت أنهم على معرفة فطرية بها. في الواقع، هم دائمًا يبحثون عما هو أكثر تحدّيًا، كالإيقاعات المركّبة ذات الأوزان الصعبة. وهذا ليس مستغربًا، لأننا نعمل معًا منذ أكثر من عشرين عامًا. أنا لا أشعر أنني أتعامل مع موسيقيين من خلفية ثقافية مختلفة، بل مع أشخاص يحبّون الموسيقى الشرقية ويفهمونها بعمق. هم موسيقيون ناضجون يتعاملون مع العمل بروح مسؤولة تحفظ أصالته وجذوره. باختصار، أشعر أنّ هؤلاء "هنّي اللي بيفهموا عليّ".
-
هل تشعرين أنّ جمهور اليوم قادر على استقبال هذا النوع من الحوار مع التراث؟
* في الواقع، لا أحدد خياراتي الفنية بناءً على تفضيلات الجمهور، بل انطلاقًا مما أسعى إلى إيصاله إليه. وأنا أُدرِك أن لهذا العمل بُعدًا سمعيًّا خاصًّا، ولا أتوقّع أن يستمع إليه الجميع، إذ إنّ جمهور هذا النوع من الأعمال غالبًا ما يكون محدودًا لكنه مهتمٌّ بها بعمق.
-
لازَم اسمك الموشح منذ البدايات، فقد أعدتِ تقديمه بروح جديدة في أكثر من تجربة. بعد هذه الرحلة الطويلة، ماذا قدّم الموشّح لريما خشيش كفنّانة؟ وماذا قدّمت هي له في المقابل؟
* علّمتني الموشّحات الكثير. بدأتُ الغناء في سنّ صغيرة جدًا، وتعلّمت من خلال ما كنت أسمعه، فكنتُ أحفظها تلقائيًا بدافع الشغف لا الواجب. ومع النضج، أدركت ما تنطوي عليه من دقّةٍ وصعوبة في الأداء. أوّل موشّح أدّيته كان "أنت المدلّل" على مقام الصبا، وهو من الموشّحات الصعبة التي لا يتقنها كثيرون. كما غنيتُ في فرقة سليم سحاب المعنيّة بتقديم التراث، وكنتُ أحفظ كل ما يُقدَّم من موشّحات، سواء تلك التي أؤدّيها أو التي يقدّمها زملائي، فضلًا عن الموشّحات التي قدمتها الفرقة التي كان والدي يعزف فيها على آلة القانون. كنتُ طفلةً يسهل عليها الحفظ، وكان شغفي بالموسيقى يجعل الأمر متعةً خالصة. لاحقاً، التحقت بالكونسرفاتوار في السنة الرابعة مباشرة، إذ كنتُ قد حفظتُ مسبقًا جميع الموشّحات المقرّرة في السنوات الثلاث الأولى. وحين سعيتُ إلى الإنتاج، وجدتُ ما أقدّمه بالفعل. لقد أغنتني الموشّحات، وأظنّ أنني إن كنت قد منحتها شيئًا، فهو يتمثل في إيصالها إلى شريحة جديدة من الجمهور التي تميل إلى الأسلوب الذي قدمتها به.
-
يبدو الموشح اليوم غريبًا، كأنه طيف من زمن آخر وسط مشهد موسيقي سريع ومتقلّب تحركّه المنصّات الرقميّة. هل يستطيع هذا الشكل الغنائي أن يشق طريقه إلى جمهور أوسع، أم أنّه سيظل تجربة متفردة، نخبوية، لا تقربها إلا قلّة؟
* تذوّقُ الموشّح أمرٌ صعب، إذ يحتاج إلى ثقافةٍ موسيقيّةٍ متأصّلة وذائقةٍ مدرَّبة على الإصغاء إلى الجمال في أدقّ تفاصيله. وأرى أنه ومع مرور الزمن، يختلف أسلوب تعامل الأجيال مع الموسيقى، فلكل جيل أسلوبه واهتماماته. ومع ذلك، يبقى هناك متخصصّون يبحثون بصدقٍ ويتذوّقون بعمق، يلاحقون هذا النوع من الأعمال والقوالب، ويسعون إلى صون الذائقة الرفيعة والحفاظ على جوهرها وسط عالمٍ متسارع.
-
يُنظر إليكِ كواحدة من روّاد تهجين التراكيب الموسيقية الشرقية بالهارموني الغربي. في ضوء هذه التجربة، هل ترين أن ثنائية "الشرق والغرب" ما زالت صالحة كأساس للتفكير الموسيقي اليوم، أم أصبحت تشكّل عائقًا أمام الإبداع؟
* ثنائية الشرق والغرب لا يجب أن تشكّل عائقًا. العالم اليوم مفتوح على بعضه، وليس لديّ موقف سلبيّ بالمطلق تجاه هذا الانفتاح. السؤال الحقيقي هو: هل خدم التهجين العمل أم لا؟ أقيّم الأمور دائمًا وفق التطبيق والنتيجة.
ومع أنّني أُعدّ نفسي "أصوليّة" إن صح التعبير، إذ نشأتُ على مستوى موسيقيّ رفيع ولا أحتمل أيّ خطأ في الأداء أو التكوين، فإنني أؤمن بأنّ التجديد، حين يُنجز بوعيٍ واحترامٍ للأصل، يمكن أن يكون امتدادًا طبيعيًّا للتراث لا خروجًا عليه. ما يُزعج الذائقة أو يُنفّر السامع هو ما أرفضه تمامًا، لأن أي تجربة موسيقيّة، مهما كانت حداثيّة، ينبغي أن تبقى منسجمة مع جوهرها الفني وروحها الأصيلة.
-
دعينا نتعمّق في كيفيّة تطبيق هذه الرؤية الفنيّة، "يا منيتي" مثلاً لُحّنت على مقام النهاوند، وهو من المقامات الأقرب للتفاعل مع الهارموني، لكن ماذا عن الموشّحات الأخرى التي تُبنى على مقامات شرقيّة خالصة، مثل الهزام أو السيكاه أو الصبا؟ هل ترين أنّ هذه المقامات تمتلك القابلية نفسها للتطويع، أم أنّها تحتفظ بمساحة مقاومة خاصة تفرض العودة إلى منطقها الشرقي الأصلي؟
* هذا الجدل يرتبط بعناصر عديدة. أوّلًا، لا بدّ من التذكير بأنّ الموشّح بطبيعته يمنح مساحة أرحب "للّعب الموسيقي"، بخلاف الدور أو القصيدة اللذين يبدوان أكثر صرامة في بنائهما. لذلك، فإنّ هامش الحرية في الموشّح يتحدّد تبعًا لطبيعة اللحن الأصلي، ولرؤية الموزّع نفسه. حتّى في المقامات الشرقيّة الصرفة، يمكن للموزّع أن يجد مدخلًا إلى صيغة هارمونيّة حديثة، شرط أن يحفظ جوهر المقام وروحه، وألّا تمسّ بنية اللحن الأساسيّة. بعض التجارب يغيّر المقام نفسه لتكييفه مع الرؤية التوزيعيّة، لكنّني أعتبر ذلك جريمة فنيّة. فالمقام في الموسيقى الشرقيّة كائن حيّ له حالته وانفعاله وبيئته، وأيّ تطوير يجب أن ينطلق من داخله لا أن يُفرض عليه من خارجه. الموسيقى العربيّة في الأصل غنيّة بزخارفها وبانتقالاتها المقامية المتعدّدة، وهي تمتلك طاقة تعبيريّة عالية. أنا لا أبتعد عن روح الموشّح، مهما اختلفت الرؤية أو الأسلوب. قد تتبدّل المرافقة، وقد يتنوّع التوزيع، لكنّ الجوهر يبقى محفوظًا في قلب التجربة.
بالعودة إلى الألبوم، كان فؤاد عبد المجيد يميل بشدّة إلى مقامَي الكرد والنهاوند، وغالبية موشّحاته تدور في فلكهما، ما يجعلها أكثر قابليّة للتوزيع المعاصر. أمّا الموشّحات الأقدم التي تعاملتُ معها في أعمالي السابقة، خصوصاً في ألبوم "هوى"، فكانت أكثر تحدّيًا، لأنّها بُنيت على منطق شرقيّ خالص، وغالبًا ما أُدّيت بآلات محدودة ومرافقة بسيطة.
-
استغرق هذا الألبوم عامين من التحضير بين البحث والاختيار والتسجيل. بعد هذا الجهد الطويل، هل سيطول انتظارنا قبل أن نسمع جديد ريما خشيش، أم أنّ هذه التجربة فتحت شهية العودة بوتيرة أسرع؟
* لن يطول الانتظار، فثمّة ألبوم قيد التحضير، يضم مجموعة من الأعمال الجديدة وهو تعاون مشترك سيجمعني بربيع مروة. وقد تم تلحين أغنيتين منه، وهما من كلمات الشاعر حسن عبد الله، وسيُصار إلى تسجيلهما قريبًا. ومن المنتظر أن يصدر ألبوم "يا من إذا" على هيئة أسطوانة في فصل الربيع أيضاً، لتُستأنف بعده الأنشطة الفنية وما قد يستجد من حفلات.
