تحت عنوان "عوالم صغيرة" Petits Mondes، تقيم "غاليري جانين ربيز" (الروشة- بيروت) معرضاً جماعياً يضم أعمالاً لستة فنانين هم زينة أبي راشد، كارول بيربان، فرانسوا سارغولوغو، هانيبال سروجي، سوين تسانغ وألان فاسونيان.
ينبغي القول، بداية، إن ما يميز الأعمال المعروضة، وكما يشير عنوان المعرض، بالرغم من الناحية المجازية التي قد تخطر في البال، هو أنها صغيرة الحجم، وهذا الأمر ينطبق على الأنواع العديدة الحاضرة، من نحت أو تصوير، وحتى تجهيز.
قد نكون اعتدنا على مشاهدة أعمال كبيرة الحجم في أحيان ومواقع كثيرة، بل ثمة، أحياناً، مبالغة في الحجم، لغاية في نفس الفنان، بحيث تستحيل معاينة العمل الفني بكامله، وكما يُفترض، ما لم نحظَ بمسافة كافية تفصلنا عنه. هذه الحالة شهدناها، وما زلنا في ما ينتجه الفن الحديث، مع الإشارة إلى أن اللوحات، ذات الحجم الكبير المذكور، خرجت، من حيث المبدأ، عن وظيفة اللوحة التي ترسّخت مع الزمن، لكونها صُنعت في الواقع كي تحتل مكاناً على جدار، وتشكّل متعة شبه مستدامة للمقتني. أما في الحالة، التي نحن في صددها، وفي ما يخص مسألة المعاينة، فستصبح المهمة سهلة، ويمكن الإحاطة بمفهوم العمل ومقاصده من مسافة قريبة. هذا الأمر، على ما نعتقد، من شأنه أن يضفي على عملية التلقي "حميمية" خاصة.
وإذ يتطرّق إلى ذهننا النوع الفني المسمّى "مينياتور"، وهو الذي اتخذ طابعاً تراثياً عبر التاريخ في بلدان عديدة، فإن الاختلاف واضح بين تلك اللوحات الصغيرة العائدة إلى التسمية المذكورة، وما نراه لدى "غاليري جانين ربيز". فهذه السلسلة من الأعمال الفنية الحميمة تتحدث بلغة مختلفة عن الطابع الزخرفي التي اعتمدته المينياتور، وهي التي تضمنت تفاصيل كثيرة، وروت قصصاً لا تخرج عن النطاق المباشر، من دون ألغاز أو عمق فلسفي. أما ما نحن في صدده فيمتلك أصواتاً خاصة، وكمّاً من الشاعرية التي تتجلّى كخيط مشترك وثابت، وذلك بالرغم من كل الصعاب التي نمر بها، في عالم يزداد ظلمةً، وتنتفي فيه العدالة والتفكير السليم، في خروج عن المنطق الإنساني على نحوٍ لم نشهد له مثيلاً.
تحتضن المجموعة المختارة رؤىً وأساليب ووسائط متنوعة. يكشف كل عمل فني عن لحظة من مراحل إبداع صانعه، وانعكاسًا لدواخله، حيث تتأرجح المشاعر العابرة بين التعبير الفردي ورنين الشعر الرقيق. المعرض هو، في مكان ما، عبارة عن حوار بين الفنانين الستة، علماً أن لكل منهم أسلوبه ووسائطه ورؤيته لدور العمل الفني، الذي، وعبر الفانتازيا، يعمل على إيقاظ مشاعر دفينة. ففي أعمال ألان فاسويان النحتية تجتمع المنحوتات الصغيرة ضمن حلقة حول حجر منحوت يتوسط المجموعة، ولكل عنصر من هذه المجموعة، متطوّرة الأحجام من الصغير إلى الكبير، تعابير مختلفة ووظيفة تمثيلية تستمد، رمزياً، خطوطها من الواقع الإنساني.
"تماثيل" كارول بيربان ذات طابع "بشري"، علماً أنها تعمّدت تشويه الشكل، والاستغناء عن بعض مكوّناته، بحيث يصبح هذا الشكل رأساً وشبه جزع وقدمين. ثمة ما يذكّرنا ببعص أساليب التعبيرية في منحاها الأكثر تطرّفاً. السلسلة المعروضة لفرانسوا سارغولوغو عبارة عن مشاهد طبيعية تتدخّل فيه الفانتازيا وحتى الخيال العلمي، وهي مؤطّرة بأشكال بعيدة من الهندسة الدقيقة ضمن مساحة اللوحة. قصّصات الورق العائدة لهانيبال سروجي تبدو كأنها استُخرجت من مبنىً محترق، وجرى عرضها مع إضافات قام بها الصانع تتراوح مفاعيلها بين اللون والخط، إضافة إلى التحكّم بالمحيط الذاتي للورق. سوين تسانغ كان استعمل الألوان المائية ليحوّل صفحة الورق الصغير إلى أجزاء من الطبيعة، ضمن اختصار يتطلّبه الحجم، في حين تبدو مجموعته ذات تكامل في تسلسلها، وهي معلّقة على الجدار العمل قرب الآخر. أعمال زينة أبي راشد ربما اختلفت عمّا سبق ذكره، لكونها اتّبعت نهجاً غرافيكياً مونوكروميا (الأبيض والأسود) في لوحات تفوح منها، كما لدى مشاركين آخرين في المعرض، رائحة الطبيعة والمشاعر الإنسانية.
استطاع المشاركون الستة بلوغ العمق التعبيري، الذي يستوجبه العمل الفني، كبيراً أكان من حيث الحجم أم صغيراً؛ بل انكبت تلك الأعمال الصغيرة على تكثيف المعنى، عبر اختصار الأدوات، كأننا هنا في صدد أفكار طرحها الفنانون، قد تبدو بسيطة في تجلياتها، لكنها ذات أفق تعبيري يتعدّى مسألة الشكل، التي لا يعود لها أهمية في الحالة الحاضرة.
