عايدة ماريني: الفنانة المنسية!

محمد حجيريالأربعاء 2025/10/29
عايدة ماريني في مجلة الاسبوع العربي 1961
عايدة ماريني في مجلة "الأسبوع العربي" 1961
حجم الخط
مشاركة عبر

يُعرض في بعض مواقع الكتب في الإنترنت كتاب "الحياة في لبنان" لعايدة ماريني، بثمن مرتفع، ولا تفاصيل في الصحف والمواقع الإخبارية حولها. ربما يكون آخر خبر يتطرق إليها في جريدة "السفير" العام 1990 يفيد بأنها ستقيم ندوة حوارية في كلية بيروت الجامعية.

 

الفضول دفعنا للبحث عن تفاصيل عنه، أكثر من مرة في الانترنت، لكن بلا جدوى. فثمة معلومات شحيحة بالإنكليزية، وما عرفناه وقرأناه أن كتابها كناية عن مجموعة رسوم على الخشب، وضعتها في أيلول 1959 وحكت فيه الحياة اللبنانية، بكل ما فيها من فتنة وجاذبية واستئثار بالقلب والانتباه، وكانت الصورة أداة التعبير عند الفنانة، نقلت على الخشب وجوهاً تطالعنا كل يوم، مشاهد تقع على عيننا كل يوم. وقد تختلف طبيعة المشاهد والأشخاص بين القرية والمدينة، لكنك تجد أن الطابع الخاص لشخصيتنا وعاداتنا وتقاليدنا يواجهك حتى في قلب العاصمة". وأتى هذا الألبوم "أشباحاً تتراقص في مخيلة الرائي تاركة في نفسه طابعاً فريداً هو الطابع اللبناني"، حسبما جاء في كتاب "الحركة النسائية اللبنانية" لإميلي فارس إبراهيم، وكتاب عايدة جاء مع تعليق باللغات العربية والانكليزية والفرنسية.

 

لوحات عايدة ماريني

 

الصدفة قادتنا إلى التعرف أكثر على عايدة ماريني، الفنانة اللبنانية المنسيّة، المولودة في مصر، من خلال عدد قديم من مجلة "الأسبوع العربي" كان يباع في محلات الأنتيكا والصحف القديمة. ففي تقرير أعدته الصحافية نازك باسيلا، كاتبة مذكرات بديعة مصابني، بعنوان "عايدة ماريني حفرت على الخشب قصصاً من لبنان"(24 نيسان 1961)،  تبين أن عايدة ماريني فنانة لبنانية، أحبّت الشعر والأدب والموسيقى، وكانت هوايتها تعلم اللغات المختلفة فأصبحت تجيد العربية والفرنسية والانكليزية والألمانية إلى جانب شيء من الإيطالية، وكانت غايتها من تعلّم اللغات التعرّف إلى الناس من أصقاع العالم. ولم يخطر في بالها أنها ستصبح فنانة، وأن تدخل لوحاتها متحف الفن المعاصر في فيينا، وهي أحبت الحياة اللبنانية بعاداتها وتقاليدها وجمال مناظرها فنقلتها إلى اللوحات. وتعدد جوانب الحياة والتقاليد التي رسمتها من الطربوش والعمامة واللبادة، إلى أسياخ الشاورما، والكبة أفضل الاكلات اللبنانية، والسيف والترس، والخبز المرقوق، ورقصة الدبكة... أظهر ملامح لبنان الصافي، وزحمة الترمواي، وأبو علي وقنبازه، والبائع الجائل على حماره، والكثير من المشاهد التقليدية والشعبية.

 

يعود تاريخ انصراف عايدة ماريني للرسم إلى منتصف الخمسينات، إذ لم تكن قبلها تشعر بحاجة إليه، وكان اهتمامها محصوراً في اللغات والشعر والموسيقى والأدب، وكانت أيضاً رياضية وفازت بإحدى بطولات القاهرة للسيدات في التنس وهي تحب هذه الرياضة. وفيما كانت تواظب على حضور دروس في الشعر والأدب في الجامعة الأميركية في بيروت، كانت لديها ساعة فراغ لم تعرف كيف تملأها، إلى أن قيل لها أن هناك دروساً في الرسم تعطى في هذا الوقت بالذات. فأسرعت تملأ ساعة فراغها. كانت دروس الرسم تلك طريفة في نوعها، إذ لم تكن تعنى بالرسم بالمعنى الصحيح، بل كانت مجرّد معلومات إضافية تعطى للطلاب لشرح أنواع الرسم، كالرسم بالماء والزيت والفحم وكيفية استعمال هذه الأدوات. 

 

الدبكة

 

لكنها سرعان ما انساقت عايدة للرسم، فكانت ما إن تصل منزلها حتى تسارع الى تطبيق ما سمعته في درسها الأخير. وتقول في هذا المجال "للأسبوع العربي"، أنها عندما احضرت الفراشي الثلاث اللازمة للرسم، كانت قد أصغت في أحد دروس الأدب الى شرح عن الديك شانتكلير وزوجاته السبع، وعندما بلغت بيتها جاءها أحدهم صدفة بدجاجة سوداء، فأسرعت ترسمها وتضيف عليها عُرفاً جميلاً، وأسمتها شانتكلير، وما لبثت أن عرضت خمس لوحات في اليونيسكو وباعتها كلها، واندفعت للعمل، وأصبح عالم الألوان والصور عالمها الأليف.

 

لم تتلق عايدة دروساً على أيدي أساتذة كبار، بل اكتفت بما أصغت إليه من شرح عن كيفية استعمال الفرشاة والزيت والماء، وأحبت بيكاسو وشجاعته. واكتشفت بمفردها عالم الصور والألوان. بل نظرتْ من نافذة غرفتها، ورأت الجمال والشمس والبحر الأزرق، فرسمت المنازل القرميدية في حيها القديم وأشعة الشمس ترافق ريشتها، "كانت تخشى على بعض مشاهد الحياة من الاضمحلال فحفرتها على الخشب". لطالما رغبت في رسم ما يُقاربها: حياة القرية اللبنانية، حياة قروية مثالية تقريبًا. وقد نصحها أحد مُرشديها: "ارسمي، وكل ما ترسمينه سيكون جيدًا". كانت تقول ان الخطوط هي ما تراه أمامها، أما الألوان وامتزاجها فذلك يعود إلى تجاوبها مع هذا الرأي الذي تراه.

 

لوحات لعايدة نشرت في مجلة لايف الاميركية

 

في العام 1960، دُعيت رسمياً للاشتراك في المهرجان الفني السنوي الذي يقام في فيينا. فلبت الدعوة شاكرة، وما أن وصلت إلى عاصمة النمسا حتى شاهدت يافطات كبيرة تدعو الى مشاهدة اللوحات التي ستعرضها رسامة من لبنان... أما الطلاب العرب فقد اعتبر كل منهم أن معرض الرسامة اللبنانية قطعة من الوطن. قال عنها النقاد بأنها رسامة الفرح والبساطة والكمال. وقالوا أيضاً إنها رسامة الإدراك الحسي والألوان والهواء والضوء، تصوّر معنى الجمال، الجمال المجرد الدافئ، المحبب الذي تجده في الطبيعة. 

 

في العام 1963 أيضاً، طلبت هيئة الام المتحدة في نيويورك صورتين من إنتاج عايدة ماريني لطبعهما على بطاقات المعايدة للمنظمة العالمية لحماية الأطفال، وقد وزعت من هذه البطاقات ستة ملايين بطاقة.

 

الحيوية التي رافقت عايدة ماريني جعلت مجلة "لايف الأميركية"(الحياة في اميركا) تكتب تقريراً عنها فوصفتها بأنها سمراء مرحة تلتهب حماسة حيال الناس والأماكن والأشياء، في حقل عملها الفني وفي علاقاتها الشخصية على السواء، وهي الصفة التي أكسبتها استحساناً فورياً في معرضها في الولايات المتحدة.

 

لوحات لعايدة نشرت في مجلة لايف الاميركية
لوحات لعايدة نشرت في مجلة لايف الاميركية

 

شاركت عايدة في جولاتٍ ومحاضراتٍ في الغرب، ودُعيت من قِبل أصدقائها للإقامة في الولايات المتحدة وأوروبا. وكتب أحد المواقع أنها "في الحرب بقيت مُصمّمة على العيش والرسم في لبنان، وسط الحرب والاضطرابات. تعيش وترسم في واحدةٍ من أخطر مناطق المدينة. نوافذ شقتها مُحطّمة، وخدمات الكهرباء والهاتف نادرة، وتقطع أميالًا يوميًا للوصول إلى مضخة مياه للحصول على غالون الماء المُخصّص لها. وكانت تقول إن هذا هو المكان الذي يجب أن تكون فيه، للعمل من أجل السلام". 

 

أرادت ماريني أن تخدم لوحاتها عن لبنان قضية إنهاء الحرب، وأن تُعرّف الناس في الغرب على ما كان عليه لبنان، وما هو عليه، وما يُمكن أن يُصبح عليه من جديد. ولا تفاصيل عنها في زمن السِّلم، غير أن كتابها أصبح أنتيكا المكتبات، وبعض لوحاتها يُعرض بأسعار خجولة.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث