مرويّات من قاع دمشق...خِيم ومشردون ينسجون ثقافة العراء

زيد قطريبالثلاثاء 2025/10/28
يوميات دمشق
تحولت الحديقة وسط دمشق، إلى مجتمع متكامل، لكنه منعزل، تجري فيه الزيارات العائلية واللقاءات
حجم الخط
مشاركة عبر

الزبائنُ في مقهى "الشرق الأوسط"، نادرونَ اليوم، يقول النادلُ، وهو يضعُ كأس الشاي "الخمير" على الطاولة، ويقترب ليهمس: "العالم ما معها تاكل"، ثم يمضي.

 

من المحيّر فعلاً، أن يكون "الشرق الأوسط" بلا زبائن هذا المساء. فرغم أن هذا المقهى، يسميه البعض مقهى "كشّاشي الحمام"، وآخرون يدعونه مقهى "الحشاسين"، إلا أن موقعه على الحد الفاصل بين سوق "البحصة" الإلكتروني، وبسطات شارع الثورة، يعطيه بُعداً "جيواستراتيجي"، كأنه يفصل بين ثقافتين. حتى إن أسعاره المتوسطة، جذبت العديد من الكتّاب والفنانين.

نصعدُ درج الجسر الحديدي، الواصل بين المنطقة القريبة من ساحة المحافظة والسوق الإلكتروني من جهة، ومجمع "يلبغا" وبرج دمشق من الناحية الأخرى.. المتسولاتُ ما زلن هنا، لكن في "لوك" جديد، يناسب مرحلة "التحفظ" التي تمر بها البلاد، على منوال بائعات الخبز عند الأفران.

 

يوميات دمشق

 

في هذه المنطقة، يتلاقى قاع المدينة، مع رأس هرمها، فقط جسر حديديّ يفصل بين أحدث اللابتوبات وقارئات الذواكر وموبايلات الآي فون، مقابل مشردين يعيشون في شوادر وتحت شراشف تم استخدامها كسقوف لخيمٍ بدائية، تضم عائلات كاملة في الحديقة الواسعة والتي شغل مكانها سوق الأرماني ذات يوم، قبل أن تتم إزالته من المكان.

 

بأي وجهٍ ستسأل الناس عن سبب وجودهم هنا؟ هل يمكن أن توقظ النائمين تحت الأشجار وعلى المقاعد، لتستفسر عن غرف نومهم في البيوت، حيث كانوا يعيشون؟ يجيبنا أحد الرجال: "نحن لا نملك بطاقات شخصية، ولا يمكننا التنقل بين منطقة وأخرى!". وبعد الإلحاح بالسؤال، يقول إنه مع مجموعة النساء المرافقات والأطفال، ينتمون إلى قبيلة من "النَّوَر"، وقد هُجّروا من اللاذقية، بعدما "تم الاستيلاء على ممتلكاتهم"! فنسأله: ومن فعل ذلك؟ لكنه يرجونا أن نعذره عن ذكر أي شيء حول الموضوع.

 

يوميات دمشق

 

الكاميرا ترعب الناس هنا، فنعدهم بإخفاء الوجوه حتى لا يتعرف إليهم أحد. وبينما تنشغل إحدى النساء بإعداد وجبة الغداء، وهي عبارة عن حبتي بندورة مع بصلة وجرزة و"ضمّة" جرجير، تسولوها من بائع خضار في سوق الهال القديم القريب من هنا، يتحلق حولنا أطفال بوجوه واجمة، ينضح منها الرجاء بالإنقاذ، ومدّ يد العون، حتى يتمكنوا من الخلاص.

 

نكتشف أن "النّوَر" قبائل متعددة، وأن تلك العائلة تنتظر قبيلتها الآتية إلى دمشق قريباً، حتى يضعوا خطة للترحال والانطلاق إلى جغرافيا أخرى! لكن ذلك الرجل المسنّ، يرجونا أن نوصل مشكلتهم للمسؤولين، علّهم يعثرون على حلّ لتلك الفئة من الناس التي تأثرت بانعدام الأمان في الطرق والبراري، فلجأت إلى وسط المدينة، في انتظار معجزة ما.

 

يوميات دمشق

 

إلى جانب "النَّوَر"، اضطرت عائلات للسكن بشكل دائم داخل خيمة تحت شجرة في هذه الحديقة.. يقول أحد الشباب: "بيتي تهدم في مخيم اليرموك، واستأجرت بيتاً لفترة من الزمن، لكني لم أعد أستطيع دفع الإيجار، فجئت إلى هنا"، لكن كيف تعيش؟ وأين تستحم؟ ومن أين تؤمن الطعام؟ فيقول إنه يبيع قناني الماء للسيارات العابرة، ليؤمن وجبته اليومية مع زوجته وطفله الصغير، أما للاغتسال والحاجيات الأخرى، فيستخدمون حمّامات الجوامع ودورات المياه العامة تحت جسر الثورة.

 

مع الوقت، تحولت تلك "الحديقة"، إلى مجتمع متكامل، لكنه منعزل، تجري فيه الزيارات العائلية واللقاءات. ونشأت على الهامش، فئة من باعة المشروبات الساخنة. حتى الكلاب الشاردة وجدت لها مكاناً في أحد الردهات، وتكتمل الصورة بكافة التفاصيل التي تؤكد أن بشراً يعيشون هنا حياة كاملة وناقصة في آن واحد.

 

يوميات دمشق

 

حديقة تشبه الأرض الجرداء، لا مروج عشب ولا نوافير مياه، ولا ورود جورية تزين الأسيجة، إلى درجة تعتقد فيها أنك قطعت ساعات من السفر، حتى وصلت إلى هنا، مع أنك لم تجتز سوى جسر حديديّ يربط ضفتين متباعدتين!

 

معظم ساكني الحديقة، يعملون ببيع أشياء مختلفة على البسطات المجاورة، والبعض منهم أرسلوا أولادهم الصغار للعمل في محلات بيع الخضار القريبة من المكان. أما الأوفر حظاً، فيتلقى مساعدات من أحد أبنائه في الخارج، ريثما يحين الوقت لتنفيذ لمّ الشمل، الذي يعتبر قشة خلاص أخيرة، يمكنها تغيير تلك القدرية المرعبة من التعتير.

 

نغادر السياج، ونتجه صوب ضفةٍ لا نعرف ما ينتظرنا فيها، لكن حدة صراخ الباعة، وقبائل المسنين الذين يبيعون أشياء تشبه النفايات، تدفعك للقول: الضفاف الغريبة كثيرة هنا، لكن من دون أنهارٍ، يجري فيها الماء.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث