"داخل غزة" في بيروت: حكايات المراسلين في الحرب

جنى بزيالثلاثاء 2025/10/28
من داخل غزة
من "داخل غزة"
حجم الخط
مشاركة عبر

في صالة "الكوليزيه" في شارع الحمرا، عُرض الجمعة الماضي الفيلم الوثائقي "داخل غزة" (Inside Gaza)للمخرجة والصحافية المستقلة الفرنسية هيلين لام ترونغ، في حضور عدد من الصحافيين والمهتمين. العرض شكّل أول محطة للفيلم في بلد عربي، وأثار مشاعر متباينة بين الانفعال والتساؤل. فالمشاهد الآتية من فعل آلة القتل الإسرائيلية في غزة حملت وجعاً يصعب احتماله، بينما بدت المقاربة السردية أحياناً أسيرة ما أرادته المخرجة من "توثيق مهنة تُمارس في الميدان"، كما قالت في تصريحها، أكثر مما هي محاولة لقراءة أوسع لما يجري داخل غزة منذ أعوام.

 

الكاميرا في وجه العاصفة..

الفيلم من إنتاج مشترك بين وحدة الإنتاج الوثائقي في وكالة فرانس برس (فاكت ستوري) وقناتي آرتي وآر تي بي إف البلجيكية. وقد اعتمد بشكل شبه كامل على مواد مصوّرة من أرشيف الوكالة، أُنتجت خلال الحرب الإسرائيلية على غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، ما منح العمل صدقية توثيقية عالية.

يفتتح الفيلم بفقرة: "شنت حماس هجوماً قتل 1200 إسرائيلي..". جملة تضع المشاهد مباشرة في زاوية محددة من السرد. بعدها، تنقله الكاميرا إلى غزة في 6 أكتوبر 2023، أي قبل بداية الحرب بيوم واحد. ويخبر أحد الصحافيين كيف كانت الحياة يومها: "يمكنك أن تخرج وتشتري قهوة بـ5 شيكل". ثم يعرض الفيلم مشاهد الصواريخ التي أطلقتها حماس من داخل القطاع صباح السابع من أكتوبر، ثم تبدأ مشاهد القصف الإسرائيلي على القطاع، حيث عاش صحافيو "فرانس برس" واقعاً يومياً قاسياً، محاصرين في مدينةٍ مدمّرة ولا يعرفون إن كانوا سيبقون على قيد الحياة حتى نهاية اليوم.

 

شهادات من الميدان

يظهر في الفيلم كل من عادل الزعنون، ماي ياغي، محمود همس، ومحمد عبد، الذين يتحدثون عن تجربة العمل في بيئة فقدت كل شروط الأمان. يروي الزعنون، مدير مكتب الوكالة في غزة، كيف كانوا قد بدّلوا أماكنهم مع النزوح هرباً من القصف، في أماكن لا تقي برداً ولا رطوبة. يقول محمد عبد إنه كان يصوّر كل شيء، حتى المشاهد المؤلمة، من دون أن يعرف تماماً لماذا: "ربما لأوثّق ما يحدث". أما مي ياغي، فتتكلم من عمق الخوف، متمنّية إن كُتب لها أن تموت، أن يكون موتها سريعاً، لا احتراقاً مؤلماً.

هذه الشهادات هي محرك الفيلم، تمنحه طاقته العاطفية، وتكشف هشاشة الصحافي حين يتحوّل إلى شاهدٍ على موتٍ لا يتوقف.

 

 

تغطية تحت النار

مع تصاعد الحرب، يتحدث الصحافيون عن منع إسرائيل دخول أي فريق أجنبي جديد، فبقي سبعة منهم داخل القطاع حتى فبراير 2024، قبل أن يتمّ إجلاؤهم إلى الدوحة والقاهرة ولندن. يعاني هؤلاء اليوم اضطراب ما بعد الصدمة، بينما تواصل الوكالة الفرنسية العمل مع نحو 12 صحافياً مستقلاً داخل غزة.

يصف الفيلم لحظة قصف الكاميرات التي كانت تبث مباشرة "من دون أي إنذار"، واستهداف الصحافيين بشكل مباشر. تحولّت المهنة إلى معركة بقاء. ويقول أحدهم: "انقسمنا إلى قسمين، حتى إذا مات أحدنا يبقى الآخر ليغطي ما يجري في غزة".

وفي بداية أكتوبر الحالي، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استشهاد 254 صحافية وصحافياً منذ 7 أكتوبر 2023، في حصيلة غير مسبوقة. أما لجنة حماية الصحافيين، فذكرت أن 95% من الصحافيين الشهداء في الشرق الأوسط قتلتهم إسرائيل.

 

بين العاطفة والسرد

يُحسب للفيلم أنه نقل صورة حيّة عن الجانب الإنساني لمهنة الصحافة في أوقات الحرب. المشاهد المؤثرة والوجوه المرهقة والمنازل المهدمة كلها عناصر تحفر في الذاكرة. لكن بعد انتهاء العرض، برزت آراء متباينة بين الحاضرين. فقد رأى بعضهم أن الفيلم يركّز على المعاناة الإنسانية للصحافيين في غزة من دون أن يقدّم خلفية كافية لما سبق السابع من أكتوبر، أو يضع الأحداث في سياقها التاريخي الأوسع الممتد منذ العام 1948. بالنسبة لهؤلاء، بدا السرد منطلقاً من لحظة الحرب الحالية فقط، ما جعل الصورة ناقصة في نظرهم، على الرغم من قوة الشهادات والمشاهد التي قدّمها العمل إذ يبدأ الفيلم من لحظة السابع من أكتوبر، ويختم بمشهد لتظاهرات إسرائيلية في تل أبيب.

 

مع ذلك، نجح الفيلم في ملامسة المشاعر. كثير من الحضور بكى مع مشاهد النزوح والدمار، وتوقفوا عند تفاصيل صغيرة مثل صراخ الأطفال وبكاء الكبار. اللحظات الإنسانية في الفيلم منحت العمل عمقه الحقيقي، إذ تحوّلت الكاميرا إلى شاهد حيّ على الرعب والعزلة، وعلى الإصرار على التوثيق. ويقدّم فيلم "داخل غزة" تجربة توثيقية مكثفة عن مهنة الصحافة في لحظة انهيار شامل، من خلال عدسة فريقٍ وجد نفسه محاصراً داخل الحرب. ينقل العمل صورة واقعية ومؤثرة عن معنى الاستمرار في التغطية وسط الخطر، وعن العلاقة المعقّدة بين المهنة والبقاء. ورغم محدودية المنظور الذي يقتصر على تجربة فريق واحد، يحتفظ الفيلم بقيمته كشهادة إنسانية من الميدان، تكشف ما يعيشه الصحافيون من خوف وإصرار، وتترك للمشاهد مساحة واسعة للتفكير في ثمن نقل الحقيقة حين تصبح الحياة نفسها على المحك.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث