تسييس التاريخ: شهداء "الثورة العربية الكبرى" متآمرون!

علي سفرالاثنين 2025/10/27
إعدام الشهداء
إعدامات 6 أيار التي نُفذت بالتزامن في ساحتَي البرج البيروتية والمرجة الدمشقية
حجم الخط
مشاركة عبر

انشغل السوريون قبل فترة قصيرة بمرسوم صدر عن رئاسة الجمهورية حدد الأعياد الرسمية في البلاد، خلت لائحته من عيدَين: الأول هو ذلك الخاص بحرب العام 1973 مع الكيان الصهيوني، والثاني هو عيد الشهداء، الذي يصادف في السادس من أيار من كل عام، وهو اليوم الذي أعدم فيه جمال باشا السفاح نخبة من المثقفين السوريين واللبنانيين في العام 1916، في ساحة المرجة بدمشق وساحة البرج في بيروت، بحجة تآمرهم على الدولة العثمانية.

 

الجدل الذي أُثير حول العيد الأول لم يستغرق وقتًا حتى انطفأ، وذلك لارتباطه بسلطة حافظ الأسد الديكتاتور الأب، بالرغم من أنه جزء من تاريخ سوريا والجيش الوطني وأرواح الشعب السوري وذاكرته. لكن العيد الثاني استرعى نقاشًا أعمق، أعيد الضخ فيه مع تداول صفحات من كتاب التاريخ في الصف الثامن (المرحلة الإعدادية)، يصف فيها المؤلف الثائرين الشهداء بالمتآمرين!

 

قرار إزالة "عيد الشهداء" من لائحة الأعياد الرسمية في سوريا لم يكن مجرّد تعديل إداري أو تغيير في التقويم العام؛ بل حدثًا رمزيًّا ينطوي على دلالات عميقة، فقد ارتبطت هذه المناسبة بتاريخ نضالات العرب ضد جماعة "الاتحاد والترقي"، التي سيطرت على السلطة في أواخر حكم الدولة العثمانية للمنطقة.

 

جمال باشا
جمال باشا السفاح

 

كما أن استبدال وصف "الشهداء" بـِ "المتآمرين" في المناهج الدراسية يثير المخاوف لدى السوريين من أنهم أمام محاولة منهجية لإعادة كتابة التاريخ وفق منطق جديد يهدف إلى تفكيك الأسس الرمزية للهوية الوطنية. فمنذ نشوء الكيانات السياسية في المشرق العربي، كان مفهوم "الشهيد" أحد أعمدة الوجدان الجمعي. ذلك أنه ليس مجرّد قتيل في معركة؛ بل رمز للتضحية والمعنى، ومحرّك عاطفي يوحّد المختلفين حول فكرة الوطن

 

لذلك، فإنّ إلغاء عيد الشهداء المتفق عليه تاريخيًا يقود المدققين في سلوك السلطة الحالية في سوريا إلى استنتاج يفيد بأنها تقدم قراءة جديدة للتاريخ، حيث لا ترى دورًا للنضالات التي قدمها العرب من أجل الظفر بالاستقلال بعد محاولات التتريك؛ أي السياسة التي اتبعها القادة المسيطرون على مقاليد الأمور آنذاك. ويكاد الأمر يكون مبرمًا حين يقترن بالقراءة المبتسرة في المنهج التعليمي، التي تتحدث عن ظروف مروعة عاشها السوريون واللبنانيون بسبب مظالم السفاح، لكن الاستنتاج ذاته يختل وينقلب اتهاماً للضحايا بالتآمر، ويسمي الثورة التي قادها الشريف حسين بالتمرد، وبالرغم من أنه يستشهد بكلام بعض الوطنيين عن سلوكيات غير جيدة بحق العرب، إلا أن كاتب هذه القراءة لا يلبث أن يتهم هؤلاء بالعصيان، بعد أن كانوا يُدرّسون في المناهج لعقود على أنهم "شهداء الثورة العربية الكبرى".

 

من كتاب التاريخ
من كتاب التاريخ 

 

التسمية الجديدة ليست تفصيلاً لغوياً؛ بل انقلاباً في السرد التاريخي. فهؤلاء الذين أُعدموا كانوا من رواد الوعي القومي العربي ومن مؤسسي الفكرة الوطنية الحديثة. لم يكونوا عملاء؛ بل مثقفين ومصلحين نادوا بحرية العرب وكرامتهم، فاعتبرهم تيار سياسي في الدولة العثمانية خونة! وحين يُعاد اليوم توصيفهم بالمتآمرين، فإن السلطة التي تفرض هذه القراءة على الطلاب لا تتبنى رواية الشعوب لتاريخها، ولا تقدم قراءة معاصرة مسنودة بالحجج والوثائق؛ بل تسوق رواية الجهاز البوليسي الذي قام بهذه الجريمة قبل 109 أعوام.

 

 

هذا المسخ للرمزية التاريخية يشير إلى ما هو أعمق من الخلاف على رواية الأحداث؛ إنه مسعى البعض لتبديل المرجعية الأخلاقية للأجيال المقبلة. فالمنهج الذي يصف شهداء الحرية بالخيانة يعلّم الناشئين ضمنًا أن الطاعة أسمى من الكرامة، وأن الولاء أولى من الحرية، وأن السلطة هي التي تمنح معنى البطولة لا الموقف الأخلاقي. هذه عملية قلب للمعايير، تُصبح فيها التبعية فضيلة، والمقاومة وأساليبها تهمة.

 

من كتاب التاريخ

 

الاستراتيجية التعليمية هذه مستغربة حقًا من إدارة جاءت إلى السلطة عبر مشروع تغييري للواقع، مر بأطوار المقاومة السلمية والتحول إلى النضال المسلح، فهي إن لم يتم التراجع عنها، ستؤكد السلوك النمطي للسلطات تاريخيًا؛ إذ تحاول تثبيت تحكمها بالواقع الذي تسعى لإدارته، حيث تسعى دومًا إلى احتكار الذاكرة وتوحيد الرواية التاريخية بما يخدم شرعيتها. فالأنظمة التي تستمد قوتها من الاستمرار، لا من التغيير، تخشى الذاكرة لأنها تُذكّر بالبدائل، وتخشى الشهداء لأنهم يرمزون إلى إمكانية أن يُقال "لا" في وجه السلطة. لذلك تُعاد كتابة المناهج لتقديم الماضي بلا ثورة ولا مقاومة ولا تضحيات؛ بل تاريخ ينتهي عند لحظة "الاستقرار" التي تراها السلطة ذروة الوجود الوطني.

 

لكن الذاكرة الشعبية لا تُزال بسهولة. فالعيد الذي يُلغى من التقويم لا يُمحى من العقول والقلوب. وكلما ازداد التلاعب بالتاريخ، تعاظمت رغبة الناس في استعادته. وحين يُهان شهداء الأمس في الكتب، يعيدهم المجتمع إلى مكانهم الطبيعي في الوجدان العام. إنّ إلغاء عيد الشهداء، ومن بعده تحريف سيرتهم في المناهج، لا يلغيهم؛ بل يحرّرهم من قبضة السلطة ويعيدهم إلى حضن الناس بوصفهم رموزًا للكرامة لا للولاء.

 

من كتاب التاريخ

 

وفي التحليل الأعمق، لا يمكن فصل هذا التحريف عن حاجة تيار في الإدارة القائمة إلى احتكار مفهوم "الشهادة"، وربما مراعاة تحالفاتها الآنيّة على حساب تاريخ البلد. فكل نظام سياسي ذي طبيعة أيديولوجية يحتاج إلى شهدائه، ليبرّر وجوده أخلاقيًا، ويبرر بطشه سياسيًا. وحين تحتكر السلطة تعريف الشهيد، فإنها تحتكر معيار الصواب نفسه، وبناء على هذا يتحوّل التاريخ إلى محكمة دائمة تُصدر فيها السلطة أحكامها على الماضي لتضمن صمت الحاضر.

 

غير أن المجتمع الذي خبر التسلط يعرف أنّ التاريخ لا يُدوّن في الكتب وحدها؛ بل في الذاكرة أيضاً، خارج الأطر المقبوض عليها بسلطة التعليم. وبعيدًا ممّن يقبل بكل ما تمليه السلطة، فإن إلغاء عيد الشهداء، أو تسمية شهداء 1916 بالمتآمرين، ليس سوى محاولة غير مقبولة لتبديل ملامح تاريخية رسخت، وبات من الصعب إنكارها.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث