وُلد يوسف عبدلكي في مدينة القامشلي عام 1951، وتخرّجَ في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1976، في التسعينيات وبعد اعتقال دام سنتين في سجون النظام السوري السابق نُفي عبدلكي إلى فرنسا، هناك حصل على الدكتوراه في تاريخ الفن، وعندما أتيحت له فرصة العودة المنتظرة لم يفوتها.
لوحاته موجودة في معظم متاحف العالم، وفي المقابل هو موجودٌ في دمشق ولا يريد المغادرة، موضوعه الفني الأبرز في السنوات الماضية هو الطبيعة الصامتة ورسمها بالفحمْ، وكان قد أصدر المخرج محمد ملص فيلماً وثائقياً كـ"بورتريه" عن عبدلكي وحياته وتجربته السياسية والفنية.
شخصياً، تعرفت إلى عبدلكي في مرسمه في دمشق - ساروجة، إذ يقيم عروضاً سينمائية مجانيّة بشكلٍ دوري منذ سنوات. لاحقاً، تطورت العلاقة وأخذت أبعاداً سياسية واجتماعية، لكن تبقى السينما هي الدافع الأول للقاء.
عن كل هذه التجارب الفنية وما وراءها من أفكار ووجهات نظر وصراعات سياسية، حاورت الفنان يوسف عبدلكي:
لنعد إلى الماضي، حدثنا عن البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أتيت منها؟ وكيف تمظهرت هذه البيئة في أعمالك الفنية لاحقاً؟
وسط عائلة متوسطة معجونة بالهموم السياسية ولدت، وكانت العائلة تعيش في فقر مدقع في لحظة، وفي ترف نحسد عليه في لحظة أخرى، ذلك بحكم العمل السياسي للوالد ودخوله السجن من فترة لفترة. أعتقد أن ذلك حصّنني طوال الحياة، ومكنني من تقبل أو تحمل أي ظرف، فلا السجن كان لي مصيبة، ولا الحياة في باريس كانت لي نعمة!
أما كيف انعكس ذلك على عملي، فلا أملك إجابة قاطعة عليه. ربما إحدى منعكساته هي حالة العراك المستمر والدؤوب بيني وبين اللوحة، ولا أذكر أني وقّعت لوحة لا تعبر حقيقةً عن تصوراتي التقنية أو التعبيرية مهما تطلب ذلك من جهد وزمن. لا أحب أعمال الفنانين الملولين أو الواثقين من أنفسهم أكثر مما ينبغي! اللوحة بيان فكري وجمالي وضميري في زمنها، لذا لا يجب التعامل معها بخفة.
لك تجربة سياسية طويلة كشيوعي واعتقالات عديدة، وقد حدث أن نُفيت إلى فرنسا، كيف ترى اليوم تجربتك السياسية مع حزب العمل الشيوعي؟
كثير من المثقفين والفنانين اشتكوا من علاقاتهم بأحزابهم، ومن المفاهيم أو الإكراهات التي تعرضوا لها، وأبعدتهم عن تجاربهم السياسية! لم يحدث ذلك معي ربما بسبب حداثة حزب العمل الشيوعي (تأسس عام 1976) وبُعدِه عن البيروقراطية، وعدم امتلاكه منظومة صارمة من المفاهيم أو الممارسات في الحقل الثقافي، فبقي هامش الحرية لي ولغيري متاحاً بشكل مستمر.
كيف أثرت الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 عليك شخصياً، وكيف تفاعلت معها وما أثرها على أعمالك الفنية وكيف انعكست تمظهراتها على فن السوري بشكل عام؟
كانت الثورة السورية بارقة الأمل الأولى بعد أربعين عاماً من العسف والقهر والفساد. لذلك، شكلت لي أكبر منعطف سياسي في حياتي، وبغض النظر عن تطورات السنوات اللاحقة لعام 2011 والتي سرق فيها عنف النظام السوري والعنف الديني، الثورة، وحولها الى حرب أهلية مدمرة ممولة ومسلحة من الخارج وبعيدة كل البعد عن آمال الشعب السوري.
في تلك السنوات، والسنوات اللاحقة لم أرسم شيئاً لا عن الثورة ولا عن الحرب الأهلية، لكني رسمت عن الشهداء وأمهات الشهداء، إذ لم يتمكن وجداني من تحمل فكرة أن يخرج شاب في مظاهرة سلميّة ليقول كلمة حرية فيعود الى أمه بعد ساعة جثة. ألم الأمهات مقدس، خنجر يفتك بقلوبهن حتى آخر لحظة في حياتهن.
كيف حدث لقاءك الأول مع فلسطين، وكيف تمظهرت القضية الفلسطينية عبر الزمن في أعمالك؟
فلسطين!! فلسطين جرح العرب المفتوح، والذي لن يندمل إلا بإنهاء الاستعمار الاستيطاني وإقامة دولة فلسطين الحرة الديمقراطية المرفوعة الرأس إلى السماء، واليوم وبعد مرور أكثر من 24 شهراً على بداية الإبادة أصبح التحرير ضرورة لا تنازل عنها.
كنت في التاسعة عشر من عمري عام 1970 وأثناء مجازر أيلول الأسود أخذني صديق عراقي إلى مكاتب "شؤون الأردن" بجانب مقهى الروضة، التي كانت تصدر من إحدى غرفها مجلة "فلسطين الثورة" تعرفت هناك على الشاعر أحمد دحبور، والروائي رشاد أبو شاور، ورئيس التحرير حنا مقبل، ورحت أرسم لهم الأغلفة والرسوم الداخلية تبرعاً بالطبع، بعد أشهر عرض علي المدير المالي أبو نمر أن يدفع لي مقابل عملي، لم أستطع أن أفعل شيئاً سوى البكاء، اعتبرت العرض إهانة، ولم أتحمل أن يُعرض عليّ تعويض ما والشعب الفلسطيني يُذبح.
بعد ذلك وعلى مدى سنوات طويلة رسمت عشرات الملصقات عن فلسطين لفتح، وعشرات الأغلفة والملصقات للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفي السنوات الأخيرة لمجموعة أصدقاء كجوزيف سماحة.
كما كان مشروع تخرجي في كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1976 بعنوان مجازر أيلول والذي رسمت فيه لوحة جدارية بقلم الرصاص، والمكونة من ثلاث لوحات متواصلة: البدء، التنفيذ، الأمل.
كيف ومتى حدث لقاءك الأول مع الصورة السينمائية وما أثر هذا اللقاء عليك شخصياً وعلى مشروعك الفني؟
ليس لدي علاقة مهمة مع السينما بالرغم من أنها أكثر الفنون المعاصرة منذ قرن صلة وتأثيراً في الناس والمجتمعات. كنت دائماً متابعاً، ولكن متابع كسول!
ما العمل السينمائي الذي أثَّر بك بشكل عميق، ولماذا؟
لا يوجد عمل سينمائي واحد، هناك عشرات وعشرات الأفلام التي أثارتني فنياً أو موضوعاً أو معالجة، والتي من دون شك تركت آثاراً عميقة على تصوراتي وأفكاري. أي لم تُحدث السينما ضربة كبيرة غيرت حياتي! بل كانت كنقاط الماء المتواصلة التي تفتت صخر المسلمات والرؤى السابقة.
العديد من التشكيلين كانت لديهم تجارب إخراجية، والعكس صحيح، لماذا لم تحاول في السينما؟ هل يعود السبب لكونك صديقاً للمخرجين السوريين كالراحل عمر أميرالاي والمخرج أسامة محمد والمخرج محمد ملص والمخرجة هالة العبد الله؟
ببساطة لأن السينما فن ومهنة أخرى. ورغم ذلك صورت منذ خمسة عشر عاماً فيلماً عن الفنان المصري البديع حسن سليمان وهو من الجيل الثاني في مصر بعد جيل الرواد، وأعماله وأفكاره وتمرده كانت دائماً تملك قوةً وقدرةً على الإيحاء لا تخفي نفسها، صورت ذلك الفيلم والذي لم يُمنتج حتى اللحظة. لم أفعل ذلك لأني سينمائي أو لأني أريد أن أخوض تجربة الإخراج؛ فعلت ذلك من باب الغيظ لأن لا أحد ألتفت أو وثّق تجربة هذا الفنان الاستثنائي.
صنع مؤخراً المخرج محمد ملص الفيلم الوثائقي "أنا يوسف يا أبي"، تناول هذا البورتريه تجربتك الفنية والسياسية من وجهة نظر مخرجه، حدثنا عن هذه التجربة، كيف بدأت الفكرة، وما أهمية هذا العمل بالنسبة لك، إذ نسبه ملص إلى الوصايا العشر (المشروع الذي لم يكتمل نجاحه بتصوير عشرة أفلام عن شخصيات سورية بارزة وحُقِقَ منهُ خمسة فقط)؟
يجب الإشارة أولاً إلى نقص التوثيق في الثقافة السورية عموماً، والسينما باعتبارها صورة ونصاً وحركةً هي أهم فن يمكن أن يوثق للثقافة أو للمجتمع أو للسياسة. وهذا ما عملت وزارة الثقافة المصرية على تداركه فأصدرت ما يقارب من الخمسين CD عن الفنانين المصريين الرواد وما تلاهم من فنانين وتجارب وهي متاحة لأي شخص أو متابع.
للأسف ليس هذا هو حال معظم البلاد العربية وسوريا من بينها، لذا يشعر السينمائي السوري بثقل المهمة على كاهله لأنها كبيرة جداً وتحتاج لتمويل كبير، مما يجبره على أن يعتمد على قواه الذاتية وعلى عناده النبيل في هذه المسألة. وهذا كان حال فيلم محمد ملص "أنا يوسف يا أبي". إذ أن الفيلم أنجز من دون تمويل وبتبرع مشكوراً بأجهزة التصوير من قبل شركة انتاج صديقة، ومساهمة كريمة من العاملين عليها وعلى رأسهم مدير التصوير وائل عز الدين.
وملص قامة كبيرة من قامات السينما السورية، وأنجز خلال خمسين عاماً أعمالاً بديعة مثل "أحلام المدينة" و"الليل" إضافة إلى بورتريهات لعديد من الفنانين الكبار أمثال صبري مدلل ونزيه الشهبندر رائد السينما السورية، وفاتح مدرس، مع العزيزين عمر أميرالاي وأسامة محمد.
أطلع ملص قبل سنتين من التصوير على عشرات إن لم أقل المئات من أعمالي منذ السبعينات، قبل التصوير بالطبع، وهذا يشي بدقته المعروفة، ولك أن تتصور مدى فخري عندما ينجز سينمائي مثل ملص على هذه الدرجة من المهنية والموهبة فيلماً عن عملي وحياتي.
الفيلم للآن لم يعرض في الصالات ولا في أي مهرجان، لكن لا يجب أن يكون ذلك سبباً للتحسر، فالأعمال الجميلة تتجوهر مع الزمن.
وهنا لا بد من الإشارة الى أن هذا الفيلم أو الأفلام الأخرى عن شخصيات وفنانين يمكن أن يكون محرضاً للسينمائيين المخضرمين أو الشباب للقيام بإنجازات مشابهة، فالحياة الثقافية السورية تضم عشرات المبدعين في كافة الحقول. ويمكن للسينما أن تنقد تجاربهم وعدم تركها فريسةً للموت البطيء.
"الفنان الجيد ينسخ، الفنان العظيم يسرق" هذه الجملة منسوبة إلى بيكاسو، اشرحها من وجهة نظرك.
يلجأ الكثير من المثقفين والرسامين والشعراء إلى ترداد جملٍ استعراضية لا علاقة لها بالواقع مثل جملة: "فلان نسيج وحده" لا يوجد فنان نسيج وحده! ليس المبدع نبتة صبار في صحراء خالية! المبدع نتاج تراكم اجتماعي ومعرفي وابداعي عمره آلاف السنين، ساهم فيه عشرات الآلاف من الموهوبين حتى وصلنا إلى لوحة تكعيبية أو تجريدية أو قطعة تجهيز. غير ذلك وهمٌ ليس إلا. ولذا، الفنانون المبدعون يرتكزون على إنجازات الماضي لإبداع أعمال "جديدة"، ومنهم من تكون إضافته بسيطة "فينسخ" ومنهم من يكون عيار الابداع في عمله عالياً "فيجدد".
متى تسطو الصورة على الزمن؟ وكيف تتحول الصورة إلى أيقونة؟ كيف نصنع عمل يصح لأي زمان وأي مكان، عمل يصمد في وجه الزمن ويلامس أي إنسان؟
الزمن وحش كاسر. لا أحد، ولا شيء يقاومه. عمر الإنسان المستقر لا يتجاوز ثمانية آلاف عام! وهو شيء بسيط للغاية في عمر الإنسان الأول الذي يتجاوز ستة ملاين سنة، أو في تكون كوكب الأرض قبل أربعة مليارات ونصف من السنوات!!!
الأعمال التي نعرفها اليوم في المتاحف من وادي الرافدين أو النيل أو الغانج إلى عصر النهضة لا تتجاوز بضع مئات أو آلاف السنوات! ولكننا لا نعرف شيئاً عن أسلافنا قبل عشرات أو مئات آلاف السنين إلا على سبيل التخمين! رغم اكتشاف مئات الدلائل البسيطة والأدوات البدائية! لذا لا يجب أن نتحدث بثقة كبيرة عن تحدي الزمن، فنحن بين فكيه لقمة سائغة.
كل ما يستطيع أن يفعله الشاعر أو الرسام أو الموسيقي هو أن يشعل معارفه ووعيه ومواهبه، لإنتاج أعمال تحرض أو تمتّع البشر حوله في هذه اللحظة. وإذا انفتحت أمامه أبواب السماء فستعيش أعماله بضع مئات من السنين أو بضعة آلاف. هذا ليس أمراً مهماً، لأن الزمن "فالج لا تعالج" مقاومته على المدى الطويل وهم. المهم أن ينجز الرسام من دون أن يكون عبداً للماضي، ولا عبداً للسوق، ينجز أعماله ساعياً لحرفة عالية ومعرفة عالية وموهبة عالية. وأن يستنطق وجدانه الصادق الصامت، أي أن يستمتع ويمتّع.. وإن استطاع فيقبض على الجمر.
