كان يوسف سلامة، الروائي والقاص (1925-2000) كاتبي المفضل وصديقي وشريكي. هذه السنة هي مئوية ولادته وكذلك مضى على غيابه ربع قرن ولم يزل مشرقاً في وجداني، أخاطبه ويخاطبني، ولاحدود بيننا. كان روائياً حداثويا مختلفاً يصقل ادواته باستمرار ويقرأ في لغات واتجاهات وينتقي موضوعه ويحفر فيه حتى كل الأبعاد. كتبه هي حياته في تجليات الحروف والكلمات والصفحات.
عنصر السخرية في أدبه ينبثق في النص وقبله في الفكر والرؤية وفي الموقف من الوجود. سخرية قائمة على تفاؤل مأسوي وهي علاج للعجز والنسيان والظلام. لعل الادب العربي الحديث لم يعرف منذ مارون عبود وسعيد تقي الدين وفؤاد كنعان تلك السخرية الدامعة الضاحكة المثقلة بالفلفل والبهار، والمفضية إلى ضحك كثيف وتأمل عميق. كأن روايته ولدت من روح الفكاهة ومن ضحك الاله. اسمعه يقول في كتابه "السقف": "انا لا أعرف يا ابنتي من هندس هذا الطريق الطويل القصير. وما هو سبب الازدحام عليه. ولكنني اعرف دون أدنى شك ان الذي هندسه وشقه وعبّده كان سبحانه تعالى محبا للنكتة".
ولد يوسف سلامة في عين عنوب، جبل لبنان عام 1925 تلقى دراسته الاولى في الشويفات وفي مدرسة الفنون في صيدا. وكان استاذه فيها الشاعر الراحل يوسف الخال ولاحقاً أصبح أحد اعز اصدقائه. ثم تابع دراسته في الجامعة الاميركية في بيروت (بكالوريوس في الاقتصاد 1947) ناضل في صفوف النهضة العربية العليا في القدس بين 1947-1948. وأيضا في صفوف النهضة الاجتماعية واعتقل أبان "الثورة الاجتماعية الأولى". درس في جامعة شيكاغو (ماجستير في العلوم السياسية 1950). وتتلمذ على يد أهم المحاضرين في القانون الدولي، ولقح خبرته في هذا المجال بالاطلاع الوافي المعمق على علمي النفس والاجتماع. حاز الدكتوراه في العلوم السياسية والدولية من جامعة جورج تاون في واشنطن 1961. أسس فرع مصرف انترا في نيويورك واداره حتى سنة 1967. عاش حياته متنقلا بين السويد ولبنان وساهم من خلال دار نلسن التي اسسها مع عبودي ابو جودة وكاتب هذه السطور ولاحقاً هشام شرابي في مجال الكتابة والتأليف والنشر. رأى يوسف سلامة أن النشر في لبنان والعالم ينقصه الدأب والدقة واحترام جهد الكاتب وعقلية القارئ.
صدر له لبنان في الامم المتحدة (دار مجلة شعر سنة 1962) "حدثني ي. س قال"(1988) "السقف"(1991) "جريمة في البيت -قصة اعدام ابراهيم طراف"(1994) "عود الكبريت"(1995) "شرفنا لنخطف انفاسك"(1997) اصدر لأعمال الكاملة (1998) و" قصائد ونصوص من الادب الايروسي"(1999) و"وداعا رياح التفاؤل" (1999) عدا الدراسات والمقالات والقصص في الدوريات اللبنانية والعربية.
كل كتب يوسف سلامة ورواياته وقصصه نابعة من تجربة معيوشة واختبار حقيقي. في كتابه "حدثني ي س قال" كتب قصة نضاله في فلسطين بعنوان "حاجز القطمون". واللقطة الاطرف فيها صورة اميل الغوري يكركر في نرجيلته والجيش الاسرائيلي يتقدّم. أما قصة اعتقاله في سجن الرمل وتلك الفرشة التي شاركه فيها غسان تويني ونصف المسجونين فلعلّها قصة ضاحكة بقدر ما هي دامعة. اما قصة افلاس بنك انترا الذي أسس فرعه في نيويورك بتكليف من صهره يوسف بيدس فقد رواها تحت عنوان "برج السرطان" السرطان الذي أكل لبنان كله فيما بعد واسه النظام الطائفي. أما قصة خطفه خلال الحرب اللبنانية (1985) مع الدكتور منير شماعة فكتبها بعنوان "في خندق واحد". كما روى في هذا الكتاب قصة اغتيال زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة في فصل بعنوان "شجرة الخروب" وأنهى بهذه العبارة "كانت الشجرة أصلب من محاولاتهم... بقيت ثابتة متشبثة بالأرض". اثار كتابه "حدثني ي س قال" اعجاب النقاد وترك الصدى الإيجابي. كتب عنه محمد علي فرحات " يوسف سلامة شاهد عصره. دوّن ذاكرته الخاصة التي هي ذاكرة جيل ناهض بطريقة اسرة". وكتب شوقي ابي شقرا "يعطي يوسف سلامة في نصوصه نكهة خاصة ومميزة تدلنا على التجذر لهذا الكاتب والباحث في السياق الكلاسيكي للموضوع المطروح، وعلى كونه ابن نهضة فكرية تمتد الى العقلانيين الذين أبدعوا مؤلفات نابضة بعمق السخرية والطرافة الفكرية". اما الناقد محمود شريح فكتب "يوسف سلامة سجل ما شاهده وخبره على مدى نصف قرن. مفكر نهضوي في عباءة اقتصادي ومناضل عنيد في جبة مؤرخ".
قال غير مرة عن الكتابة "إنها مثل اللعب. تشبه لعبة الغولف الضربات كثيرة والحدس اقوى". ذات مرة سألته في حوار طويل: لماذا أنت ساخر؟ فأجاب على طريقته: "لأن السخرية بحد ذاتها تعطيك لمعة فكرية. وفي الكتابة بإمكانك أن تعقص مرتاحاً وتعقص حتى نفسك. وبإمكانك أن تخرج بمواضيع مملة جادة بكلمتين كالبهار... أعتقد أنني كلما اقتربت من الحس الساخر اقتربت جوهراً من نضال الانسان في سعيه إلى الفرح والسعادة والحياة." يقول في حادثة خطفه "عندما رفعت الوسادة عن رأسي وفتحت عيني على الاذلال والقهر. ثم نظرت إلى منير شماعة. ودون ان أكلمه أو استأذنه أمسكت بالخيارة ودحشتها في الموضع اللائق بها". ويروي أيضا في قصة سجنه كيف أمسك بيده رياض الصلح في السرايا الحكومية وسلمه الى خاله النائب منير ابو فاضل قائلاً: "بلا احزاب بلا اكل خرا". في كتابه "السقف" –قصص- تلمح اليد الدافئة التي ترفع سقف الحياة. أما كتابه الفريد "جريمة في البيت" فقد أرسل التقارير النفسية والجنائية إلى الخبراء في أوروبا وأميركا لمعرفة رأيهم قبل أن يقرّر موقفه من المجرم ومن الرواية ومن نظام البلد. كتاب استمد منه المسرحي روجيه عساف مسرحيته "جنينة الصنائع"، كتاب هو مزيج من ترومان كابوت وكافكا وسعيد تقي الدين.
في كتابه "شرفنا لنخطف أنفاسك" روى قصة صراعه مع مرض السرطان، معركة قاسية في اذلال المرض وقهر وجع الرحلة الاخيرة. جعل من المرض أرض صراع جابهه بعيون مفتوحة وابتسامة مغرية. كنا نزوره للاطمئنان عليه ماذا هو يضحك ويسخر ويشيلنا من الهموم والظنون. أما روايته الأخيرة "وداعا رياح التفاؤل" فكان يريد عنوانها "بول على رياح التفاؤل" حتى استقر على عنوانها فاضحاً تناثر القيم العربية ومستشرفاً اندحار الهوية العربية في زمن العولمة.
كان يوسف سلامة صاحب ريادة نهضوية في الكتابة والحياة والصداقة. اتذكره وهو يدندن "ترلم ترلم" كلما رأى الاشياء والامور تكرر نفسها في الحياة والعباد والبلاد. لا أزال أذكر اللقاء الاخير الذي جمعه مع الاصدقاء في السيتي كافيه عام 2000. يومها رفع يديه وقال: "محبة الاصدقاء هي اقوى سلاح لمحاربة الجهل والخوف والمرض". بعدها سافر الى السويد وأرسل لي صورة الشجرة التي سيدفن في ظلالها وتوفي هناك ودفن في السويد تاركاً حياته تنبض في الكتب وفي الحنين الى الشرق.
