بسام العنداري... في وداع طليع حمدان

المدن - ثقافةالأحد 2025/10/26
طليع حمدان
طليع حمدان ودروعه
حجم الخط
مشاركة عبر

 

لا صفة لي للحديث عن طليع حمدان، الذي خسره لبنان أمس، سوى أنني من جمْع كبير من الشعراء وعشاق الشعر الذين أحبّوا شعره وتأثروا به، وحاولوا أن يقلدوه منذ الصغر، ولم يستطع أيٌّ منهم أن يَكوُنَه

 

لم ألتق به قَطّ. مع ذلك كان لي حظ ارتباط اسمي باسمه عن طريق الخطأ عندما كتبتُ منذ سنوات قصيدة ألقيت في برنامج تلفزيوني قدمه الشاعر الكبير موسى زغيب، الذي عرّف القصيدة على أنها من قصائد طليع حمدان. وبرغم الخطأ شعرت بأنني كنت محظوظًا؛ أولًا لأن موسى العظيم ساوى بين شعري وشعر طليع حمدان، وثانيًا لأن هذا الخطأ سمح لي أن أكلم موسى زغيب هاتفيًّا للتصحيح، وهي فرصة لم أكن أظن أنها ستسنح لي في حياتي

سيقول كثيرون إن خسارة "أبو شادي" خسارةٌ للزجل اللبناني. لكنها في رأيي خسارة للشعر بأشكاله المتنوعة. فقيمة الصورة الشعرية لا تحدَّد بالشكل الذي يحتويها. فالشكل يستطيع أن يَحُدَّ من جمهور المتلقين أو يزيدَه، ولكنه لا يقدم ولا يؤخر في مضمون ما يقال. لم يُنصف المهتمّون بالشكل الشعر. وأذكر أنني كآخرين قبلي كنت أكتب الشعر الزجلي الموزون موزعًا على سطور غير متساوية ليبدو كالشعر الحديث فيُقرأ ولا يُهمل. وللغرابة كانت الخدعة تنجح مع كثيرين ممن كانوا يزدرون الزجل وهم لا يفقهون

 

طليع حمدان

قدّم طليع حمدان من الصور الشعرية طوال مسيرته ما هو أروعُ من كثير من القصائد التي صنعت شهرة شعراء تربعوا على عرش الشعر المكتوب باللغة العربية الفصحى. لكن اختلاط تلك الصور مع شعر الفخر والتحدّي المنبري، الذي هو جزء من تراث لبناني عريق، حصرها بجمهورٍ محدود نسبيًّا، متمسكٍ بالثقافة الشعبية، وإن لم يكن مكتفيًا بها. كانت صورُه بحاجةٍ لمن ينتشلها من زحمة الزجل المنبري ليلفت الانتباه إليها. (يشبهه في ذلك الشاعر العراقي مظفر النواب الذي كتب صورًا رائعة ضاعت بين سطور الهجاء والنقد السياسي)

إذن من هذا الجمهور صعد طليع حمدان وسطع نجمه. شاب صغير السن التحق بجوقة من عمالقة الزجل آنذاك، جوقة زغلول الدامور (جوزف الهاشم)، برعاية أبوية من أبو علي، زين شعيب، واستطاع منذ البداية أن يكون مختلفًا.

أضاف إلى الصوت الذهبي الجميل لغةً شعرية جديدة. أغرق طليع المنابر المكتظة بالمراجل والشَّدّ والقدّ، بالربيع والبساتين والزهور. فعل ذلك بجرأةٍ استثنائية لو لم تسندها عبقريته الشعرية لأسقطته في بداية الرحلة

 

ومثلما كان بعض الشعراء الأقدمين يبدأ قصائد الفخر بالغزل، تمكن طليع حمدان من فرض الغزل ورقّة القول على منبر المحاربين حتى في سياق المراجل وسنّ السيوف. ولم يَقْصُر غزلَه على النساء. تغزل بالربيع والبحر والنهر والنبع والزهر والأمومة، وكلِّ ما يحرك مخيّلة سامعيه ويلمس عواطفهم.

قال في قصيدة يتحدّى بها الشاعر أسعد سعيد:

"مش رح إتركك تا الروض يزهر

ويصرخ يا طيور العزّ طيري

وتوعى هالدني والفجر يظهر

عليها متل تنّورة قصيرة

وتفيق الشمس بسرير أحمر

عم تكاغي متل طفلة زغيرة

وتقلّي إذا رح بعد تسهر

تا إرجع نام هزّلّي سريري"

طليع حمدان

حفظتُ شعره في مقتبل العمر. كان عنوان أول ما قرأت من دواوينه “أوتار مبحوحة". حوّلني الكتاب إلى عاشق صغير قبل أن أفهم معنى الحب فصرت من مريديه

من غزله الذي لا يفارق ذاكرتي (على ضعفها) قولُه:

"ليكي الشمس فزعت عليكي تبردي

وعْيِت من النوم حمرا مورّدي

وطالعة بكّير تا تلمّ الغسيل

اللي تغسّل بهالليل بدموع النِّدي

ليكي إجت ع مراية خدودك تميل

حتّى تمشّط شعرها الفوقك هِدي

ويتسابقوا جْداديل هالغزْل الجميل

تا يكنّسولك مطرح اللي بتقعدي"

 

وصورة أخرى أذهلتني ولا تزال:

"لمّا فتحتي الباب للزوّار

تا سلّم عْليكي قْرِبت ليكي

والباب حدِّك، متل إيدي، صار

ينمّل ويتكمّش بإيديكي"

هناك الكثير مما يقال عن طليع حمدان، منه ما ذكرت، ومنه ما يتعلق بالوجه الطائفي البشع الذي يتحكم بكل أوجه الحياة والثقافة في لبنان ليرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ولكنني سأتوقف هنا لأنني أطلت عليكم

رحم الله طليع حمدان وحماكم من كل مكروه

(*) مدونة نشرها الشاعر اللبناني المقيم في بريطانيا بسام العنداري

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث