بعد شهور من رحيله، عرف الوسط الثقافي متأخراً بوفاة الناشر المصري، حسني سليمان. يليق هذا الرحيل الهادئ، بمؤسس "دار شرقيات" بالقاهرة، تلك الدار التي ساهمت بقدر وافر في تشكيل المشهد الأدبي المصري في عقد التسعينيات وما تلاه، ومع هذا فضل صاحبها دائماً التواري بعيداً من أضواء المناسبات والاحتفالات الثقافية.
عاد سليمان من الخارج، ليؤسس داره للنشر في العام 1991، برأسمال متواضع وثقافة مهنية دؤوبه ومدققة. صادف تأسيس الدار مع وصول صناعة النشر ومعها فن الكتابة إلى مفترق طرق. من ناحية بلغت "ثورة الماستر"، أي ظاهرة انتشار المجلات الثقافية غير الدورية وأصدارات المرة الواحدة، إلى نهايتها. فالثورة الصغيرة التي تبعت رفع الرقابة المسبقة على النشر في العام 1977، تولى قيادتها حلقات أدبية نشطت في عقد الثمانينات عبر النشر الذاتي والجماعي وأحياناً بنظام الجمعيات الدورية، وذلك بغية الاستقلال عن بيروقراطية الدولة ودور نشرها الحكومية. لكن وبسبب افتقاد تلك المبادرات للمهارات الحرفية وضعف مواردها المالية بالإضافة لعدم استقرار الدوائر الأدبية المسؤولة عنها أو تماسكها لوقت، انتهت تلك التجارب الواعدة جمالياً باستنزاف نفسها من الداخل.
في مطلع التسعينيات، كانت "الهيئة المصرية للكتاب" هي الناشر الأكبر للأدب في مصر، وتليها بمسافة كبيرة "هيئة قصور الثقافة"، وكلتاهما مؤسستان حكوميتان. بشكل متناقض، كان دور الدولة يتراجع في تمويل النشاط الثقافي في حين نشطت وزارة الثقافة أيام الوزير فاروق حسني، في جلب المثقفين إلى حظيرة الدولة. وبين حركتي المد والجزر في بحر الرعاية الحكومية بمعانيها السلبية والإيجابية معاً، كانت ثمة حاجة ملحة لطريق ثالث غير النشر الحكومي ودور النشر التجارية.
صودف أيضاً تأسيس "دار شرقيات" مع ظهور جيل أدبي جديد أو بالأحرى طليعة جديدة، هي جيل التسعينيات والمعروف أيضاً بـ"جيل شرقيات" نسبة إلى الدار نفسها. كان الانهيار المفاجئ للكتلة الشرقية، إعلان نهائي ومتأخر عن موت السرديات الكبرى، وعلى تلك الخلفية رسخت كتابة جديدة وجودها في الساحة الثقافية، وهي تعلي من قيمة اليومي والفردي والتفاصيل الحسية والدقيقة وتغلب الجماليات على الإيديولوجيا. ثمة مصادفات عديدة هنا، مما ينفي عن الأمر صفة الصدفة. قدمت "شرقيات" نموذجاً مثالياً لدار نشر يمكنها بشكل يكاد أن يكون منفرداً أن تكون قاطرة الحراك الأدبي وتجديده. والحال أن سليمان بشخصه كان مثالاً فريداً للناشر بوصفه نجماً. ذلك الدور الذي سار على منواله محمد هاشم، مؤسِّس "دار ميريت" الأقل مهنية، ومن بعده مؤسِّسو دور أخرى من بينهم فاطمة البودي مديرة "دار العين"، وكرم يوسف مديرة دار "الكتب خان"، وغيرهم.
بداية كان تركيز سليمان منصباً على إعادة إصدار كلاسيكيات جيل الستينيات، لكنه سرعان ما ضم إلى إصدارته طبعات جديدة لكتاب من أجيال لاحقة ومعها تجارب ومغامرات طليعية للجيل الأصغر سناً، ولأصوات غير معروفة قادمة من الهامش. وضم إلى لائحة كتّابه المصريين، كتّاباً عرباً وترجمات كانت تكاليف نشرها في العادة تمول بمنح من مؤسسات غربية. وفي ظل شح الموارد المالية، اعتمدت "شرقيات" نظام تمويل، يشارك بموجبه الكاتب في تكاليف النشر ويتقاسم مع الدار المكسب والخسارة. وكان ذلك النظام محطة في المنتصف بين النشر الذاتي والنشر المؤسسي بمعايير رأسمالية، ومكّن الدار من نشر 20 إلى 30 كتاب سنوياً.
استمر عمل "شرقيات" قرابة ربع قرن، قبل أن تغلق الدار أبوابها في العام 2017. ثمة الكثير الواجب قوله بشأن سليمان وميراثه الذي تركه لنا، وهناك الكثير مما يجب الرجوع إليه في تجربته، فقلما ساهم شخص بمفرده في إعادة تشكيل الحقل الثقافي وصناعة النشر كما فعل هو.
