"نكهة بيروت" لنادر سراج: الطعام وصناعة اللغة

علي نجيب إبراهيمالسبت 2025/10/25
المائدة اللبنانية
المائدة البيروتية الشامية شديدة الشبه بالفن التشكيلي..وليس مصادفة أن يطلب الزبون في مطعم "تشكيلة" مقبلات متعددة الألوان
حجم الخط
مشاركة عبر

حين تقرأ العنوان الذي اختاره لكتابه الدكتور نادر سراج، الأكاديمي والباحث اللساني الاجتماعي، تستوقِفكَ دلالة الرَّبط بين الموائد والسرديّات التي تشمل العادات والطقوس الشعبية، ليس في بيروت وحدَها، بل في حواضر بلاد الشام كُلِّها، حتى بعدما قسَّمها المُستعمِرون الإنكليز والفرنسيون. فهو يعرِضها على امتداد بابين واسعَين، وباب ثالث تصنيفي: يتكوّن الأول من سبعة فصول، والثاني من أحد عشَر فصلاً، بينما خُصِّص الباب الثالث للملاحق بمُصطلحات الطعام ومجازاته وكناياته وأمثاله الشعبيّة. وبذلك يجول بنا صاحب كتاب "بيروت جدل الهوية والحداثة" (مكتبة أنطوان 2022) ضمن مجموعة من السياقات المُتشابكة: المأكولات الشعبية وفنون طَهيِها، وعلم اللغة الاجتماعي، ومبحث تحليل الخطاب ومنظومة العادات والتقاليد البيروتية وآدابها وما تنطوي عليه الأمثال الشعبيّة من دلالات شديدة الارتباط بتحضير الأطعمة، وتجهيز مؤونة الشتاء من القاورما والمُربّيات والفواكه والخُضار المُجفَّفة كالتين اليابِس، والزَبيب.

 

نادر سراج

 

كذلك تستحضِر السرديّات التي أوردها الدكتور سراج عصر "الأكل على الواقف"، أو الوجبات السريعة، التي تُذكِّرنا بمأساة شارلي شابلن في فيلم "الأزمنة الحديثة"، حيث اخترع له صاحب معمل القِطارات الذي يشتغِل فيه آلةً تُلقِّمه الطَّعام بسرعة فائقة كي لا يُضيِّع وقت العمل في تذوُّق وجبة الغداء والتمتُّع بها. وهكذا شرعتِ الوجبةُ السريعة في تحويل طقوس الجلوس إلى "الموائد" إلى شيءٍ من الماضي. فهل نجحت في مَحو سرديّتها من بلاد الشام عامّةً، ومن بيروت خاصَّةً؟

 

سندويشات على الكهربا
يَرِد في الكتاب (صفحة 241) تحت عنوان: محلّات "الفاكهاني" في بيروت (شارع المعرض) تُروِّج لجَديدها: "سندويشات" على الكهربا" (التوستر) ما يأتي: "فَضلاً عن دخول جِهاز الهاتِف إلى "حلبة" الترويج الدُعائي [...] ثمة إعلانات طريفة عرفتْها مَتاجر بيروت، ودشَّنت من خِلالها إمكانية استخدام الطاقة الكهربائية كعنصر حداثوي جاذِب للفت أنظار الزبائن". ممّا يشي بأنّ الوجبة السريعة فرضَت وجودها على حِساب "الطَّبَق" المُتكامِل الذي تنعقِد حولَه "السُّفْره" البيروتيّة المُتميِّزة بنكهة مُتأصِّلة في أعماق الناس، وأذواقِهم.

 

ومع ذلك، يقول لنا المؤلِّف، في ما بين سُطور كِتابِه، إنّ هذه النَّكهة ما زالت تعكِس الآصِرَة الوثيقة بين البيروتي وطبيعة لُبنان، وما تجود به كرومها وحواكيرها. وهي آصِرَة مُتعدِّدة الوجوه، تُسهِم دوماً في إغناء "فَنّ الطَّبْخ" البيروتي ـ الشامي، شديد الشَّبَه بالفنّ التشكيلي. فليس من باب المُصادَفة أن يطلُب الزبون في المطعَم اللُّبناني "تشكيلة" مُقبِلات تحتوي كثيراً من الألوان، والروائح، والنَّكهات التي تُمتِع النظر وتفتحُ الشهيَّة في آنٍ. وهنا ـ عزيزي القارئ ـ تتتبَّع صفحات الكتاب، وتُحاوِل أن تُحصي ألوان التبّولة مثلاً: ففيها الأخضر، والأحمر، واللَّيموني، والبُنّي، والزَيتي. تفوح منها رائحة مُركَّبة تضوعُ ضَوعاً: رائحة النعناع، والبقدونس، والبصل الأخضر، والخَسّ، واللَّيمون، وزيت الزيتون. حينئذٍ تُدرِكُ نواحيَ مُتعدِّدة منها ما يخصُّ معنى التلذُّذ بالطعام، وتشهّي ألوانه المُتنوِّعة. ومنها ما يخصُّ "الحاكورة" و"وكرم الزيتون" في جِوار الضواحي. ولعلّ الأهمّ من ذلك كلّه الموائد البيروتية وما يُرافِقها من طقوس الأفراح (المولِد، والخِتان) والأتراح (لُقمة عن روح الميت). 

يُفيد هذا التنوُّع المُلتحِم بحياة البيروتيين اليومية بأنّ العيون هي التي تتمتَّع بألوان الموائد، وطُعومها، ونكهتها. أمّا الفَمُ فأعمى كتلِكَ الآلة التي اخترعها صاحب معمل القطارات لكي تُلقِّم شارلي شابلن وجبَة الغداء! 

 

رو

 

وأكثر ما يلفت النظر ماثلٌ في مُعجم ألفاظ الحياة العامّة التي تشمل أسماء القُدور، والغُرْفَة والمِغرَفة، واللَّعقَة التي تُشتَقّ منها لفظة مِلعَقة. تكمُن أهمية هذه الألفاظ ـ بالإضافة إلى دلالتها المُباشرة ـ في ما تستدعيه إلى الذِّهن الجَمعي من ألفاظ أُخرى (كالمَوقِد، والأُثفية، ومِدفأة الحطَب)، ومن أفعال تكاد تُحاكي دلالات الألفاظ: كفِعل أوقد، وغرَف، ولَعقَ، وحرَّكَ، وطيَّب، وتبَّل (أضاف التوابل)، وبهَّر (أضاف البهارات). ولا ننسى الأفعال الدّالّة على مستويات التذوُّق الهرميّة من اللَّقْمَة، واللَّهْط، واللَّهْف، واللّقف، والقَضم، إلى القَرْط، والعَضّ، والتلمُّظ ("تلمَّظَ شفتَيْه")، وأكل أصابعه مع اللقمة الشهيَّة، وتشهّى، وتذوَّق، واستطعَم، وشَبِعَ، وأُتْخِمَ، وغيرها. ممّا يستدعي الانتباه إلى آداب الطَّعام، ومُراعاة النصائح التي لا بُدّ من اتّباعها: "لا تَنْهَش نَهْشَ الأفاع، ولا تُدِمِ الأكلَ إدامةَ النِّعاج، ولا تلقَمْ لَقْمَ الجِمال" (صفحة 41). 

 

"السُّفرة" البيروتية و"الصُّفرة" الشامية

لا شكّ في أنّ الكتابة عن موائد بيروت وسردياتها لا تُغني عن قراءة الكتاب الذي يُقدِّم "نكهة بيروت" للقارئ العربي من منظوراتٍ مُركَّبة تتمحور حول انعكاس هذه النكهة على اللغة العربية، وخصوصاً على أسماء مُكوِّنات المأكولات في اللهجات الشاميّة التي تُكوِّن لهجة بيروت واحدةً منها. وفي هذا المقام، سأكتفي بالإشارة إلى أنّ أهمية التعبيرات اللغوية والأمثال الشعبية التي أوردها كما نقّب عنها في المصادر والمراجع في هذا المجال. إذ جعله حِرْصُه على الأمانة العلمية يُعرِض أحيانًا عن التدخُّل لتدقيق بعض الأمثلة، وكم كنتُ أتمنّى لو أنّه تدخَّل (في الصفحة 151) في وصف "الغَمَّة" [طعامٌ يُتَّخَذ من رأس الخروف ويَدَيه ورِجليه وكِرشه وجزء من مِصرانه. يُحشى الكِرْش والمِصران رُزَّاً ولحماً وتُغلى جميعاً]. فهو معلومٌ أنّ للخروف قوائمَ لا يدَين ورِجلَين. وثمة طبخة شاميّة شهيّة اسمُها "فَتّة المَقادِم"، أي مقادِم الخروف أو العِجل أو الكِبْش. وأعتقد أنّ الغَمّة تجمع طبختَين: الكرشة المحشيّة وفَتّة المَقادِم. وخصوصاً أنّ الدكتور نادر يَشرح (في الصفحة 354) معنى "المَقادِم" بالقَول: "مَقادِم الخروف يداه ورِجلاه تُسلَق وتؤكل، ويُصنّع منها فتّة، فتّة المَقادم والكَوارِع...".

 

فتة

 

ملحوظتنا هذه لا تُفسد للقراءة النقدية قضية، ولا تُغبط المؤلِّف جهدًا مصطلحيًا بذله في الأبواب الثلاثة. فقد قام بتحديد وشرح مصطلحات غذائية، لهجية المنشأ والتداول في بلاد الشام، قاربت المئة وثمانين، وقد يشكل على القارئ الشامي خصوصًا، بل العربي عمومًا، تشفير دلالتها المُبتغاة في سياقات استعمالها اليومي. هذا الخزين المصطلحي ردّ الاعتبار إلى المُهمل والمنسي والمُهمّش من أبجدية الطعام "الشامي". وهذا دأب العلوم الإنسانية والمشتغلين في شتى فروعها الباسقة في الألفية الثالثة: طرح تساؤلات يقينية وصوغ مقاربات منهجية وتشقيق معطياتٍ حقلية وتدقيق سرديات مُتناقلة مشافهة والالتفات إلى بلاغة الناس في أفراحهم وأتراحهم بغية ترميم الذاكرة قبل فوات الأوان وحفظها للأجيال المقبلة. 

 

وأشار الدكتور سراج إلى لَفظ أهل بيروت صاد "الصُّفرَة: الجَوعَة" سيناً، إذ يقولون: "كَسْر السُّفرَة": بينما يقول الشاميّون: كَسْر الصُّفْرَة. ويُقال الأمر نفسه في المثل: "ضَرْب الحبيب أشهى من الزبيب"، والحال أنّ المثَل الجاري على ألسنة الشاميّين أيضاً هو: "ضَرْب الحبيب زبيب". وتجدر الإشارة إلى أنّ الألفاظ والأمثال المُدوَّنة في الكتب والقواميس شيء، ولفظُها الدارِج على شفاه الناس شيء آخر مختلِف. وهذا ما أخذه المؤلِّف في الحسبان.

 

 وعلى أيّة حال، مثل هذه المُلاحظات لا ينقِص ذرّةً واحدة من أهمية الكتاب الثقافية والذوقية ومن مقارباته التي تحاكي تطور الأبحاث اللسانية الحقلية، وتضع نواتج المعرفة الحية بتصرّف القرّاء، وتربط اللسان بالعمران والطعام ببلاغة الكلام. "نكهة بيروت موائد وسرديات" هو إضافة نوعية للمكتبة العربية، أدوات وأساليب بحث، ونهجًا ومعالجةً وأسلوبًا، ونهلًا من معين الإنسانيات واللسانيات والثقافيات ومن مخزون الثقافة الشعبية العربية من الشام لِتطوان. 

 

(*) برعاية وزارة الثقافة اللبنانية، يوقع د.نادر سراج كتابه في في قصر اليونيسكو، يوم الخميس 6 تشرين الثاني 2025، بين الساعة الرابعة من بعد الظهر لغاية الساعة 8 مساءً.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث