تصدرت "لوحة الأزرق اللامتناهي" للفنان الفرنسي إيف كلاين، تريند منصات التواصل الاجتماعي، خلال الساعات القليلة الماضية، بسبب سعرها الذي تخطى ملايين الدولارات، حيث بيعت اللوحة الزرقاء أحادية اللون مقابل 18.4 مليون يورو -أكثر من 21 مليون دولار-، في مزاد علني. (وفي العام 2013، بيعت منحوتة على شكل زهرة من تصميم كلاين، مصنوعة من إسفنجات زرقاء اللون على ساق معدنية وقاعدة حجرية، بمبلغ 22 مليون دولار في دار سوثبي للمزادات في نيويورك، محطمة بذلك الرقم القياسي لأعماله).
وجانب من التعليقات الفسابكة استغرب ثمن اللوحة قيمتها الخيالية وعدم فهمها بل بساطتها، وسأل بعضهم عن الفن المفاهيمي المبهم والذي لا يفهم، وجانب آخر تذكّر موزة الفنان الإيطالي موريزيو كاتالان الذي باع موزة بآلاف الدولارات. وهناك أمثلة تنافسها في العجب العجاب. فالفنان الأرجنتيني لوسيو فونتانا بيعتْ أشياء سماها اللوحات المشقوقة، وصل سعر الواحدة منها إلى 13 مليوناً. والفنان الأميركي ساي تومبلي بيعت لوحته العام 2015 بسبعين مليون ونصف المليون دولار، وهي عبارة عن ست سطور من شخابيط دائرية بيضاء على لوح رمادية، وراجت الى جانبها مقولة على لسان بعض النقاد تقول إن سر روعة لوحة تومبلي بأن مشاهدتها تجبرك على تدفق مشاعرك الإنسانية ومن لم يستشعر هذا الإحساس فهو متبلد الشعور!
وبالعودة إلى ايف كلاين، فقد قالت دار كريستيز للمزادات إن لوحة "لوحة الأزرق اللامتناهي" التي يبلغ عرضها أربعة أمتار وارتفاعها مترين تقريبًا، هي أكبر لوحة أحادية اللون لكلاين في ملكية خاص، رسمها في أوائل عام 1961، قبل وقت قصير من قيامه برحلته الأولى والأخيرة إلى الولايات المتحدة لإقامة معارضه الأولى عبر المحيط الأطلسي، في نيويورك ولوس أنجليس، وألحق كلاين مجموعة من الحصى الصغيرة بسطح اللوحة، مما جعلها تذكرنا بقاع البحر تحت الهاوية الزرقاء للمحيط.
و بدأ إيف كلاين رسم اللوحات أحادية اللون عام 1947. كانت هذه اللوحات، بالنسبة إليه، رفضًا لفكرة التمثيل في الرسم، وبالتالي وسيلةً لـ"تحقيق الحرية الإبداعية".
وكان كلاين شغوفًا باللون الأزرق الداكن الذي استعمله رسامو المنمنمات في القرون الوسطى، لكن ذلك اللون كان مصنوعًا من مسحوق حجر اللازورد الكريم الباهظ الثمن. وبمساعدة من صاحب محل دهانات في باريس، تمكن كلاين من تصنيع لون أزرق مشابه من مكونات اصطناعية، وأطلق عليه لاحقا اسم "أزرق كلاين العالمي" وسجله كابتكار خاص به.
وعدا ذلك كان كلاين يعتقد أن أزرق كلاين الدولي هو الأداة المثالية لتوضيح "إيمانه بالقوى الروحية واللامادية. أما الأزرق اللازوردي فهو اللون الرمزي التقليدي للروح القدس في الديانة المسيحية، ويستحضر أيضًا اتساع السماء اللانهائية وعمق المحيطات". بحسب دارسي أعماله، كان كلاين مصمماً على استحضار المشاعر والأحاسيس بشكل مستقل عن الخط أو الأشياء المقدمة أو الرموز المجردة، معتقداً أن السطح أحادي اللون يحرّر اللوحة من المادية من خلال مجموع الصبغة النقية، ويحتفي باللون في حد ذاته، ويردد "اللون بحد ذاته هو الفن".
في العام 1957 أقام الفنان معرضًا في باريس ضم 11 لوحة متشابهة إلى حدّ التطابق، ليس عليها غير اللون الأزرق، وقد علقت اللوحات على بعد 20 سنتيمترًا من الجدار لتعزيز الشعور بالفضاء، والأغرب من ذلك تم تحديد أسعار مختلفة لهذه اللوحات، بحيث يشتري المقتني ما يراه في لوحة ولا يراه في أخرى.
حقق المعرض نجاحًا، وتم نقله إلى ألمانيا وإنكلترا، وصدرت بطاقات بريدية بلون أزرق كلاين العالمي.. لكن أعمال الفنان لم تكن يومًا ما تكرارًا لذاتها، فإضافة إلى أنه كان يستخدم أدوات مختلفة لوضع اللون على اللوحة للحصول على ملمس مختلف في كل مرة مثل الأسطوانة المتدحرجة، والفرشاة العريضة، وخرقة القماش للتبقيع، كان يعمد في بعض الأعمال إلى تغميس قطع من الإسفنج باللون الأزرق وإلصاقها على خلفية باللون نفسه. وإلى ذلك، كان يشتري في بعض الأحيان مجسمات صغيرة لتماثيل مشهورة ويطليها بلونه الأزرق، ما جعله أحد رواد "البوب أرت"، كما كان ينثر الطلاء الأزرق على أرض قاعة المعرض بشكل يجعله غير قابل للبيع والشراء (القيمة الأساس التي كانت وراء نشوء الفن المفاهيمي)، أو يحمل نساء عاريات على طلاء أجسامهن باللون الأزرق وطبع بصماتهن على قماش اللوحة أو على جدار.
لم يُسمِّ كلاين هذه الأعمال، ولكن بعد وفاته العام 1962، قامت أرملته روتراوت كلاين-موكاي بترقيم جميع اللوحات أحادية اللون الزرقاء المعروفة من IKB 1 إلى IKB 194، بتسلسل لا يعكس تسلسلها الزمني. في سبعينيات القرن الماضي، حللت نسويات مثل جوليا شتاينميتز عمل كلاين، معتبرةً إياه استخدامًا لنماذج نسائية كأشياء، وذلك بتلطيخها على القماش. بهذه الطريقة، أصبح كلاين الفنانَ صاحب السلطة، المسيطر عليه ذكوريًا. لكن هذا ليس سوى تفسير.
توفي كلاين العام 1962، بعد إصابته بثلاث نوبات قلبية، يردها بعض الأطباء إلى تسممه بلونه الأزرق العالمي، لأنه كان يضع أحيانًا بعض أدوات العمل في فمه. لكن أزرقه ظل حاملًا اسمه. رغم عمره القصير الذي لم يتجاوز 34 سنة، عاش إيف كلاين حياة يحسده عليها كبار فناني القرن العشرين، على الرغم من أنه لم يتلق تدريبًا رسميًا في الفن، إلا أن والديه كانا فنانين، فاطلع منهما على كل ما كان قائمًا آنذاك من اتجاهات فنية. وما كان قائمًا آنذاك هو خليط في غاية التنوع من كل المذاهب الفنية التي تلت الانطباعية، وكان عليه أن يتجاوزها، ليصبح بسرعة أحد رواد ثلاثة اتجاهات فنية حديثة هي: "الواقعية الجديدة" الباريسية التي قادها الناقد الفرنسي بيير ريستاني و"الفن المقلّ" و"البوب"، بسبب تعدد اهتماماته وتلوّنها.
في سن الخامسة عشرة، درس كلاين التجارة البحرية. وفي العشرينيات من عمره، بدأ كلاين دراسته للروزيكروشية، وهي مجموعة من التعاليم الروحية الباطنية، والتي ستلعب دورًا رئيسيًا في تطور معتقداته الصوفية. وفي تلك الفترة أيضا بدأ يرسم ويتلقى دروسًا في رياضة الجودو. كما سافر إلى بلدان عديدة بما فيها اليابان العام 1953، حيث نال الحزام الأسود في الجودو من المرتبة الرابعة. وأكثر من ذلك، اطلع هناك على الفن الياباني المقلّ من الزخرف والحشو، وبيوت اليابانيين التي تكاد تخلو من المفروشات ما عدا الحد الأدنى اللازم.
خاض كلاين غمار أنواع أخرى من الفن المفاهيمي. ففي معرض "الفراغ" (1957)، أفرغ معرض "إيريس كليرت" في باريس، وأعاد طلاء جدرانه البيضاء، وقدّم الفضاء الفارغ كعمل فني. أما في معرض "القفز إلى الفراغ" (1960)، فقد قدّم صورةً تُظهر الفنان وهو يقفز، ذراعاه مفتوحتان، من مبنى. تُظهر الصورة الفنان معلقًا في الفضاء، ويبدو أنه يُحلق في الهواء بفضل قوته الروحية.
في بداية ستينيات القرن العشرين، انبهر كلاين بالعناصر الطبيعية، فدمج النار والماء وإسفنج البحر والحصى في لوحاته ومنحوتاته. نتج عن ذلك سلسلة من لوحات النار، ولوحات بارزة أحادية اللون، ومنحوتات IKB التي عبّرت عن أفكار كونية عن الفضاء اللانهائي - مثل هذه المنحوتة هنا.
