الروائي طلال فيصل "للمدن": الصدق الفني فوق الدقة التاريخية

أسامة فاروقالخميس 2025/10/23
طلال فيصل
"ذهبت للتاريخ المملوكي بمحض الصدفة، بدهشة وتساؤل واضحَين، لكن بلا معلومات تقريباً!"
حجم الخط
مشاركة عبر

في تدوينه للعام 826هـ، وبعدما عرض أبرز أحداث العام مبتدئاً بأسعار الغلال والبضائع، كتب المقريزي: "وفيه ماتت ابنتي فاطمة، وهي آخر من بقي من أولادي". جملة معلقة رغم ثقلها، لم يتبعها بشرح ولم يمهد لها، تبدو عفوية تماماً بلا أثر لانفعال، لكنها كانت كفيلة بأن تهز قلب جلال الساعي، المؤرخ الذي ابتكره الروائي طلال فيصل في أحدث أعماله "جنون مصري قديم"، ليقوم بدور جليل، ويجيب من خلاله على سؤال مؤرق: من يحكي حكاية المؤرخ؟ 

 

لكنها ليست حكاية عن المؤرخين فقط، بل في الأصل عن السلطة وجنون الحكم الذي يتجدد كل حين بأشكال مختلفة. حكاية عن السيرة المربكة لسلاطين المماليك، وبالتحديد الأشرف برسباي الذي حيّر معاصريه ومؤرّخي زمانه، وحتى من جاء بعدهم :"اعتبره البعض مجاهداً عظيماً يقف برسوخ بين كبار سلاطين المماليك أصحاب الحكم الطويل المستقر، بيبرس وقلاوون وابنه الناصر والظاهر برقوق وقايتباي، واعتبره آخرون مجرد تاجر تعامل مع مصر كأنها دكان حاول الاستفادة منه قدر الممكن، فأصاب وأخطأ بقدر معرفته بالتجارة وفهمه لأدواتها، ثم أفسد كل شيء بجشعه وطمعه وترفعه عن سماع نصيحة من يفترض أنهم مستشاروه". يختلف المؤرخون في تقييم حكمه لكنهم يجمعون على حيائه! 

 

وينشغل مؤرخ الرواية بسؤال آخر، لا عن جنون هذا الرجل المهذب فحسب، بل عن استقرار الحكم في ظل الجنون الواضح، والأثر الذي يتركه "الفرد الفذ" كعلامة على وجوده العابر في الدنيا الزائلة. فيتابع حروبه، وانتصاراته، الحقيقي منها والزائف، ومشاريعه الضخمة في الصحراء، وحتى صحبته للبهلوانات والأفاقين، وصرخاته في جنوده ودائرته المقربة بحثاً عن عدو متخيل. ويصل إلى نتيجة مذهلة مفادها أن الاستقرار لا ينفي الجنون، وأن الجنون لا يزعزع الاستقرار بالضرورة، ولو مؤقتًا! خصوصاً مع أولئك الذين تخدمهم حركة التاريخ والظروف الطبيعية، وحتى الأوبئة؛ فتبيد أعدائهم أو تشتت الانتباه عما وصل إليه جنونهم.

 

لا يكتب طلال فيصل رواية تاريخية بالمعنى التقليدي، بل يتحرك ببراعة بين الأزمنة والنصوص وألاعيب الخيال، حتى ليتحير القارئ كثيراً، ويتساءل أثناء القراءة وبعدها: هل الرواية عن برسباي وزمنه -فقط- فعلاً؟ !هنا يتحدث طلال فيصل لـ"المدن" عن الرواية وظروف كتابتها..

 

  • في حوار سابق، قلت إنك تعمل على مشروع روائي كبير، ثلاثية تبدأ بـ"هاجس مصري طويل" ثم "حلم مصري طويل" وأخيراً "سؤال مصري طويل". لكن مع صدور "جنون مصري قديم" يبدو أن مسار المشروع تغيّر كلياً. كيف وُلدت الفكرة في الأصل؟

     

* لم يتغير مسار المشروع تماماً، ما زال في بالي أتخيل مشاهده وأنا أتمشى منفرداً وأكتب فيه من وقت لآخر في رأسي، لكنك لا تسيطر على أفكارك ولا همومك التي تجلس لتكتب عنها تماما كما تتخيل، أو تتمنّى؛ لم تخطر في بالي في أي لحظة كتابة رواية تاريخية، ولا كتابة شيء يدور في زمن المماليك إطلاقاً؛ ربما تكون هذه المرة الأولى التي أذهب فيها للكتابة عن عالم وأنا لا أعرف عنه أي شيء. ما حدث ببساطة هو أنني توقفت في لحظة دهشة أمام نموذج عجيب ومتكرر في التاريخ القديم وربما المعاصر، لحاكم يوصف في زمنه وأزمنة لاحقة بأنه مختلّ أو مضطرب عقلياً، وجدتني أتوقف رغما عني أمام هذا النموذج العجيب مندهشاً، ثم تضاعفت دهشتي وأنا أكتشف أن حكم هذا الحاكم تمكّن، رغم كل ما دار حوله من تساؤلات بخصوص سلامة قواه العقلية، أن يُرسي حكماً مستقراً وثابتاً ولسنوات طويلة! ظل هذا السؤال عالقاً في بالي حتى قادتني الصدفة، والصدفة وحدها، للقراءة عن سلطان مملوكي لم أكن أعرف اسمه من قبل، يُدعى الأشرف برسباي، استخدم المؤرخون في وصفه كلمة "مالنخوليا" ورغم ذلك ظل حكمه مستقراً لأعوام طويلة، مع ملاحظة أن الحكم في زمن المماليك كان من النادر أن يستقر في يد شخص واحد لفترة بهذا الطول، وهكذا بدأت رحلتي مع المماليك وتاريخهم ومع الأشرف برسباي وزمنه، وهكذا بدأت رحلة البحث في الجنون المصري القديم.

 

كتاب

 

  • كيف تطور هذا المشروع عبر المراحل المختلفة؟ وكيف أعددتَ له على مستوى القراءة والمشاهدة؟

     

* كما قلتُ لك، ذهبت للتاريخ المملوكي بمحض الصدفة، بدهشة وتساؤل واضحَين، لكن بلا معلومات تقريباً! في البداية قرأت ما يخص السلطان الأشرف برسباي وزمنه وقراراته الاقتصادية، وهو شخصية محيرة جداً بالنسبة للمؤرخين في زمنه وفي أزمنة لاحقة، ثم وجدت أنني لن أتمكن من فهم شيء - وأنني طالما لم أفهم سياق المرحلة كلها بقواعدها هي، فإنني سأقرأ قراءة انتقائية فحسب للاقتناع بما أفكر فيه لا لاكتشاف أفكار جديدة. وجدتني مطالباً لتحقيق الإتقان بقراءة الكتب العامة عن تاريخ المماليك، تلك الموجهة لغير المتخصصين، والتي تمنحك نظرة شاملة مبسطة، ثم أخذتُ أتعمق شيئاً فشيئاً حتى وصلت لقراءة الأعمال الرئيسة الكبرى، مثل المقريزي وابن تغري بردي وبدر العيني وابن إياس، وأظن أمتع لحظة بالنسبة لي كانت اللحظة التي أدركت فيها أنني قادر على القراءة بمفردي وقد امتلكتُ زمام اللغة والموضوع وصرتُ قادراً على القراءة بلا مساعدة خارجية، ثم بدأ العمل على الرواية نفسها، وصياغة أحداثها!

 

  • في حفلة إطلاق الرواية أشرت إلى أحد أعمال يوسا، بالتحديد "زمن عصيب"، باعتبارها ألهمتك فكرة معارضة التاريخ أو التشكيك في مصداقية كتّابه. وهي إشارة لافته تؤكد أن الكتب تخاطبنا أحياناً بشكل فردي تماماً. يقول يوسا في روايته: "هل يكمن التاريخ في تشويه الواقع؟ هل يكمن التاريخ في تحويل الوقائع المحددة إلى أساطير وخيالات؟ أيكون ذلك هو التاريخ الذي نقرأه وندرسه؟ الأبطال الذين نعجب بهم؟ ذلك المزيج من الأكاذيب التي صارت حقائق بفعل مؤامرات عملاقة حاكها أصحاب السطوة ضد التعساء". يبدو لي أن كل شيء بدأ من هنا؟

     

*فعل يوسا في روايته هذه - حتى وإن لم تكن من أشهر ولا أهم أعماله - شيئاً فذاً لا يستطيع فعله إلا روائي كبير، أنه يحكي عن التاريخ فتذوب الكتابة المقالية المعلوماتية داخل السرد، ولا يفقد النص التوتر اللازم لحكي الحكاية والاحتفاظ باهتمام القارئ لحظة واحدة. يوسا، ومن قبله ساراماغو، في كتابه "تاريخ حصار لشبونة"، منحاني الجرأة لأتكلم بشكل نظري من دون أن أثقل النص بحمولة من المعلومات لا علاقة لها بالشخصيات والأحداث، وبالتالي تتخلى الرواية عن سرديتها، أي ببساطة تتخلى عن كونها رواية! في "زمن عصيب" يصل يوسا درجة من التمكن من أدواته، فلا يفقدك التمييز بين التاريخ الرسمي واختراعه الخيالي فحسب، بل ينهي الرواية بحوار صحافي بينه وبين إحدى بطلات الرواية - وبطلات التاريخ الذي يحكي عنه - قائلاً إنها شخصية حقيقية، لكنها حين ستقرأ كتابه - وهو على يقين من أنها ستقرأه، لن تميز نفسها ولا أن الكلام عنها بعد ما أجراه على شخصيتها من تعديلات فنية! أظن هذه هي وظيفة الرواية ومتعتها وعبقريتها، أن تستخدم ما تطلق عليه "التشويه"، لكن من أجل بلوغ الحقيقة الأعمق الخافية عن العين المجردة!

 

  • بقدر ما هي رواية تاريخية، فإن "جنون مصري قديم" يمكن أن تكون رواية عن المؤرخين أيضاً؛ رؤاهم وانحيازاتهم وحتى طبائع شخصياتهم التي تحدد وتؤطر زاوية النظر. هل هذا صحيح؟

     

* طبعا! ثلاثة مؤرخين رسميين هم أبطال فعليين في جسد الرواية ويحركون أحداثها، أعني "بدر العيني" مؤرخ السلطان الرسمي، والذي يرى أن التاريخ يتحرك وحده وأن مشيئتنا لا قيمة لها، وأن دوره كمؤرخ - بالتالي - هو مجاملة الجميع وطمأنة الخائفين بأي كلام يتفق له قوله. ثم "ابن تغري بردي" والذي يرى التاريخ حصيلة حركة الأفذاذ أو المميزين من أهل السلطة، الحكام والأمراء، حتى أنه يعتذر حين يجدُ نفسه مضطراً للكلام عن أحد العامة. ثم المقريزي، الذي انتبه باكراً جداً أن التاريخ هو حركة رأس المال والمصالح التجارية، وكان يبدأ كل عام بالحديث عن سعر القمح والشعير، متابعاً في ذلك رؤية أستاذه ابن خلدون. وأخيراً، المؤرخ المخترع روائياً، جلال الساعي، الذي تعامل مع دوره كمؤرخ باعتباره بوابة للمجد والخلود الشخصي، رغبة في أن يصير اسمه بجوار اسم السلطان، ثم رأيت ما حدث له في الرواية! كان من الضروري هنا أن تستعد وأن تكتب عن هؤلاء المؤرخين بقراءة ما له علاقة بفلسفة التاريخ، كيف يُكتب التاريخ ومتى يصبح حدث ما حدثاً تاريخياً يستحق التدوين، ومتى يسقط حدث آخر من الذاكرة ويتم التعامل معه باعتباره حدث غير مهم، ما حدود الموضوعية في التاريخ، وهل هو مُفرغ تماما من الخيال كما نتصور!

 

  • وفق هذه الرؤية يصبح سؤالك عن الرواية كحامل للتاريخ، ضرورة لا كليشيه؟

     

* هناك حكاية أحبها كثيراً في فيلم "فاني وألكسندر" للمخرج السويدي إنغمار برغمان. في الحكاية، الطفل مغرم بالأكاذيب واختراع الحكايات الملفقة، ما يجلب عليه العقاب في المدرسة والقلق في البيت؟ في واحدة من أكاذيبه وتخيلاته، يقول إن القسيس، زوج أمه والقاسي في معاملته، كان السبب في موت زوجته الأولى وأبنائه في زمان بعيد. حين يسمع القسيس ذلك يصفرّ لونه وينهار باكياً، لنكتشف أن ما تخيله الطفل من أكاذيب هو ما حدث بالضبط! أظن أن هذا هو دور الروائي وعلاقته بالتاريخ. الكذب، إن اصطلحنا على تسميته كذباً، لكن للوصول إلى حقيقة ما، لا يدركها إلا الفنان، بروحه الطفلة الحساسة! وهنا يصبح التساؤل عن الدقة لا معنى له، إنما السؤال الواجب هو الصدق الفني، وما تكشفه لنا الرواية عن مشاعرنا أو عن المعاني الإنسانية الأعمق!

 

  • كيف ترى الزيادة الملحوظة في الروايات التاريخية خلال السنوات الأخيرة؟ وكيف تردّ على مَن يرى فيها استسهالاً أو حتى هروباً من الواقع؟

     

* لديك كل أنواع روايات التاريخ التي تريد، هناك من يكتب بدافع الحنين، بهدف أن تعيش في زمن بعيد وتغرق في تفاصيله هرباً من زمانك الذي تعجز عن التواصل معه. هناك من يكتب بدافع تعليمي، لكي نعرف تاريخ بلدنا وأمتنا وأبطالنا. وكلها أهداف مشروعة أياً كانت مسافتها من الفن كما أفهمه، اقتراباً وابتعاداً. ثم هناك من يكتب الرواية التاريخية وعينه على الواقع، ليس فقط هروباً أو تحايلاً على الرقابة أو غيرها، لكن أظن لأنك حين تنزع قشرة الزمن، وتضع الشخوص والأحداث في زمان آخر، فإنها تجد نفسها مطالبة بالوصول لجوهرها الحقيقي، قبل أن تضع عليها قشرة جديدة للزمن التاريخي الذي ذهبت للكتابة عنه! المثال الأوضح في ذهني هو العلاقة بيني وبين جلال الساعي، المؤرخ في الرواية، فقد نزعت نفسي ووضعتها في القرن الخامس عشر، فلما فعلت ذلك استطعت أن أرى جوهرها الداخلي بوضوح أكبر، أو هكذا أظنّ.

 

طلال فيصل

 

  • ينزعج بعض الكتّاب، حين لا يلتقط القارئ المعاني التي أرادوها في نصوصهم، أو لا يدرك المغزى الخفي إن وُجد أصلًا. فالكاتب عادة يفترض في قارئه الفطنة والذكاء. لكن ماذا لو توقف القارئ عند حدود الحكاية الظاهرة فقط؟ هل يرضيك ذلك؟ وكيف ترى بشكل عام مسألة الفهم والتأويل؟

     

* هناك رواية أحبها كثيراً لفلاديمير نابوكوف بعنوان "نار شاحبة"، تتحدث عن محرّر أدبي يقوم بشرح قصيدة من 99 بيتاً لصديقه وشاعره المفضل، لأنه مقتنع أن القراء والنقاد لم يفهموا القصيدة على وجهها الصحيح، ويتبين مع تطور شرح المحرّر وتطور الأحداث معه - وهي رواية ذكية جداً في بنيتها السردية - أن هذا المحرّر قتل الشاعر أو على الأقل ساهم في قتله. نابوكوف بهذه الرواية يحاول بشكل فني أن يخبرنا أن محاولة امتلاك تفسير واحد للنص هي قتل للنص ومبدعه معاً، وأن حياة النص هي في حريته، في تخلي مبدعه عنه، النص يدافع عن نفسه ويترك نفسه ليتم فهمه وتلقيه بحسب إمكاناته هو، وطبيعته وحسب تفاعل القراء معه. الرواية، والفن بشكل عام، هي محاولة للتواصل، أنا أحاول التعبير عما فكرت فيه وتخيلته، وأنت تحاول أن تفهمني، ونلتقي في المنتصف، أو لا نلتقي، أو نلتقي بشكل تام، فتتحقق النشوة التي تحدث عند أي محاولة تواصل مُكللة بالنجاح، والتوفيق وعدم التوفيق هنا يتدخل فيه ألف عامل وعامل، بداية من موهبة الكاتب وصدقه وأصالة أفكاره وفهمه لمجتمعه، وصولاً للزمن وعوامل السماء والتوفيق الإلهي والتي لا يمكننا التدخل فيها، لكننا نحاول.

 

  • تبدأ الرواية بأستاذ جامعي يحمل اسمك، يقرر أن يكتب رواية بعد أن يعثر على مخطوطات لمؤرخ من العصر المملوكي. لو أن الرواية من وحي الأوراق، ألم يكن من الأوفق أن تتقدّم فصول الأوراق على فصول الراوي؟ لماذا اخترت العكس؟ خصوصاً أن هذه الأوراق لا تضيف جديداً على مستوى الأحداث الكبرى في هذه الحالة...

     

* حسناً، هذا اقتراح جيد، ولم أفكر فيه إطلاقاً - هذا عجيب، لطول ما فكرت في هذه الرواية وفي بنيتها، لكنني لا أظن أنه كان من الممكن تقديم الأوراق، أولاً حتى تتمكن من فهم السياق الذي يدور فيه كل شيء، ثم لا يصحّ أن تنسى أن المؤرخ المتقاعد أستاذ الجامعة يعاني إحباطاًَ على كافة المستويات، وأظن الأقرب لشخصيته ونفسيته وهو أستاذ جامعي أن يتحدث هو شارحاً ومفسراً، ثم يترك لك النصوص تقرأها لاحقاً!

 

  • يخيل إليّ أن إصرارك على إدراج فصول الأوراق، يعود إلى رغبتك في الاقتراب من سحر لغة النصوص القديمة، وكأنك لم تستطع مقاومة هذا الإغراء. إلى أي مدى هذه القراءة صحيحة؟

     

  • مسألة التقمص اللغوي هذه لعبة أعرف أنها تمتعني كثيراً، وهي موجودة في كل كتاب لي - حتى الآن - ومن أجل ذلك تحديداً لا أستسلم لإغرائها بسهولة، وأسأل ما إذا كانت لها ضرورة فنية حقيقية هنا، أم أنها مجرد لعبة لمتعتي الشخصية. أظن أنها في هذه الرواية "جنون مصري قديم" كانت ضرورية للتعبير عن الأبطال الثلاثة الذين تقوم على أكتافهم الرواية بالأساس. حين بدأت الكتابة كان يفترض بهذه الرواية أن تمتلك بُنية كلاسيكية عادية عن الأصدقاء الثلاثة في زمن الأشرف برسباي، ثم تطور الأمر حتى صارت في الصورة التي قرأتها عليها! بخلاف مسألة التقمص اللغوي واستمتاعي بالقدرة على استحضار لغة النصوص المملوكية، كانت هناك متعة أخرى، تتمثل في نزع قشرة الحاضر والزمن المعاصر عن نفسي، ووضع هذا الجوهر في زمن ولغة مختلفين، في القرن الخامس عشر وفي لغة مؤرخي المماليك وباسم جلال الساعي، لتجد هذه الذات الجوهرية وقد اتضحت أمامك وأنت تكتب، وبشكل غير متوقع تماماً.

 

  • بالتأكيد الرواية ليست كتاباً علمياً، لكن كيف قاومت الكتابة عن التفسير العلمي لتصرفات أبطالك الجنونية، رغم أنها ربما تكون أكثر أعمالك اقتراباً من عالم المرض النفسي بشكل عام؟

     

ولماذا المقاومة؟! أظن أنها ميزة، أن لديّ - بحكم المهنة - بعض الأدوات العلمية التي تمكنني من التعامل مع الشخصيات التي أكتب عنها، خصوصا أن الجنون هنا، حاضر ليس فقط في الشخصيات، لكن أيضاً في الجوّ العام المحيط بها على كافة المستويات! رغم ذلك، أؤكد لك أن الخيال الروائي أرحب وأكثر اتساعاً من الأدوات العلمية أو النظريات التي درسناها في الكتب، أو لنقل إن الخيال أقوى من المعرفة، كما تقول العبارة الشائعة! دوستويفسكي سبق التحليل النفسي بخطوة، رغم أنه لم يمتلك سوى الحساسية ودقة النظر وشخصياته الروائية.

 

  • قلت سابقاً أن مشروعك لكتابة رواية السيرة ربما ينتهي برواية عن سيد قطب أو محمد عبد الوهاب. لكن يمكن النظر إلى الرواية الحالية باعتبارها رواية سيرة أيضاً بشكل من الأشكال، ويبدو أنك مستمر في هذا العالم فترة أطول مع إعلانك مشروعاً جديداً حول سيرة درية شفيق!

 

* تصورت ذلك، لكنك لا تسيطر على أفكارك ولا ما يشغل رأسك تماماً كما تتخيل، أو تتمنى. بعد رواية "بليغ"، تصورت أنني فعلت في رواية السيرة كل ما يمكن فعله، وأن الآوان قد آن لتجربة شيء آخر ومختلف، خصوصاً أن رواية السيرة بالأساس، وعند من نشأ لديهم، فن ملتبس ومثير للشكوك، يكفي أن تعرف أن فرجينيا وولف في كتابها النقدي "موت الفراشة" تقول بعبارة صريحة وقاسية أن رواية السيرة فن محكوم عليه بالموت من قبل بدايته، لأنك مخطئ سواء التزمت الأمانة التاريخية أو تخليت عنها! كذلك كان كل مشروع مما تحدثت عنه، بحاجة لإعداد من نوع خاص. رواية "قطب" تم تأجيلها قليلا لأسباب لا تخفى على أحد، ومشروع الموسيقار عبدالوهاب محوره المركزي الموت والخوف من الموت، وأنا لم أواجه تجربة الموت بشكل شخصي حتى الآن، ثم ظهرت درية شفيق وفرضت نفسها عليّ فرضاً لا بسبب النسوية كما يتبادر للذهن، لكن بسبب علاقتها العجيبة مع زعيم ملهم ومثير للتأمل هو جمال عبدالناصر، الصدام بينهما وأسبابه وما يعنيه هذا الصدام لنا في لحظتنا الراهنة! أقول لك، في آخر الأمر أنت تفكر وتحضر وتستعد، لكنك لا تسيطر على الأفكار ولا كتابتها ولا موعد ظهورها كما تريد، وأظن أن هذا في آخر الأمر شيء جميل.

________________

 

طلال فيصل 

روائي وطبيب نفسي مصري، صدرت له أربع روايات، هي: "سيرة مولع بالهوانم" (2011)، و"سرور" (2013) عن سيرة الشاعر والمسرحي نجيب سرور، ثم "بليغ" (2016) عن سيرة الموسيقار بليغ حمدي، و"الغابة والقفص" (2022). و"جنون مصري قديم" هي أحدث أعماله.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث