الأرجح أنّ النمط الكتابي السوري، ثقافة ونقداً، وُلد معطوباً. والعطب لا يقتصر على السرديات الروائية الأولى، التي كانت وظيفية وعظيّة ومنهجية في غالبيتها، ولا على الأساليب الشعرية التي غدت في جزئها البعثي السيء مناهج مدرسية معتمدة. حتى اليوم لا يقرأ تلامذة المدارس الرسمية شيئاً من شعر محمد الماغوط، ولا يعرف أحد منهم أن الشاعرة دعد حداد كتبت مسرحيات، أو أن المفكر بديع الكسم انتقد منذ البداية أهداف "البعث" (وحدة حرية اشتراكية) من منطلق فلسفي.
الجميع يتذكر التململ من حصص اللغة العربية والتربية الوطنية التي غدت مع الحكم البعثي (اشتراكية تقدمية) مسخت التقدم، وحولت فهم معاني الاشتراكية إلى خضوع أعمى! كان لدينا نهج كتابي وطني لا يشبه مَواطن السوريين المتعددة والمتصارعة والمتوازية. أي إننا نكتب كما لو كنّا خارج الزمن السوري وأحداثه الماثلة ومناطقه الحقيقية، كأنّ تاريخنا الفعلي ومعاشنا العضوي لا مكان لهما في الكتابة.
الشارع وكلام الشارع لا يحضران في الأدب ولا في الغناء ولا في الموسيقى. نحن بلا سيد درويش وبلا زياد الرحباني، بلا لغة أولى ولغتنا الثانية الفصحى لا تفصح عنا ولا تشبهنا، هذا إذا لم نذكر المعاناة الكردية السورية؛ إذ تحكّم بهم غياب مزدوج التأثير، من جهة فقد الأكراد السوريون أو كادوا صلتهم التربوية والجمالية مع اللغة الأم، عدا طورها الشفاهي والغنائي، ومن جهة أخرى تساووا مع بقية السوريين في وراثة المرض اللغوي: الفصاحة كقناعٍ للفداحة.
نجد الشرع والقانون، التاريخ المقاوم والاستشهادي وفق عقيدة "البعث" الجامِدة والمجمِّدة، لكننا لا نجد حيوات الخارجين على الشرع والقانون، على نمط الحياة الذي يحول الأفراد إلى مشاريع عسكرية، إلى مخازن لتوليد طاقات الموت.
الخارجي ممحو، والداخلي مجرد صدى تحريضي. المرئي والماثل أمامنا يُمّحى منّا حالما نكتب. نكتب لنمحو ما شهدناه من هول وفظاعة، مع أنّ الكتابة يمكن أن تأتي من المحو، لكن لا ينبغي لها أن تمحو لتُبيد، تُنسي لتبقى هي شاهدة على الخواء.
خذ مثلاً: أين سيرة المذيع الرياضي الشهير عدنان بوظو؟ كيف صار بوظو، "بوظو" فعلًا؟ وماذا عن جورج وسوف، عن القدر الغنائي الكاسح، "سلطان الطرب" الذي كان يغمى على النساء والمراهقات في حضوره؟ ماذا نعرف عن آلاف النساء اللواتي عملن في قطاف القطن والزيتون؟ هل لدينا دراسات عن سيرنا الذاتية، عن الطفولة والمراهقة، عن الرغبة في الهرب من الأب والأم السوريين؟ أليس الهرب من النمط العائلي التقليدي رغبة في ملاذ آخر؟ أليس الهرب نفسه ملاذًا؟ هل حوّل أحد تلك الرغبة وذلك الهرب إلى أسلوب؟ أذكر هذه الأمثلة وفي البال سواها، لماذا تسيد صباح فخري ساحة الغناء، ولماذا تحول نزار قباني خطيب العاشقين. هذه أمثلة وحسب، غير أننا لا نعرف عنها سوى صورتها. ثم إننا من جهة ثانية مغرمون بإطفاء اسم من يستحق أن يشار إليه.
لا شيء. وإن وُجد فيلم هنا أو قصاصة هناك، سرعان ما تغطيها غيمة يسارية تقليدية أو هشاشة بحث نمطي مقولب. والمناهج عزّزت ثقافة التلقين والحفظ لا البحث والتحليل. هكذا عندما نفكر، تخرج منّا أصوات ليست أصواتنا، وتعابير لا تشبهنا. نغدو أجانب وغرباء بينما نحن نحفظ عن ظهر قلب حدود بلادنا ونميز الخطأ من الصواب والحلال من الحرام. أي إننا نصنّف قبل أن نميّز، ونجيب قبل أن نسأل، ونكتب قبل أن نقرأ. وعلى الأرجح أننا لا نقرأ ولا نفكر بما نقرأ.
سبب العطب أننا ورثنا طرائق تفكير وأساليب كتابة لا تمت بصلة لوقائع حياة السوريين. التجربة الفعلية لا تحضر كعامل يشد الكتّاب إلى أرض الحياة نفسها. يمكننا أن نكتب ببلاغة وفصاحة، لكن هذه الفصاحة لا تظهر شيئًا ولا تبين واقعاً؛ بل على العكس، قد تكون الفصاحة عائقًا وعلة لعطب الفكر وغياب السؤال.
وقائع الحياة بما فيها من مشاكل وهموم، عوائق ومصاعب؛ أي التجربة الفعلية لعموم السوريين في معاشهم وأحلامهم، قلّما تدخل نصوصنا. ربما يجدر أن يكون الكابوس هو المنطلق للكتابة ومبدأ التفكير. الكابوس والجنون هما أصلنا الوراثي ونسبنا الوطني. إذ ماذا يمكن أن يتأتّى عن الشأن العام إن لم تكن المأساة أساسه؟ لكن الحس المأسوي عندنا يجنح إلى الرثاء بدلاً من الغضب، وإلى النصيحة بدل التوتر. العبارة الغاضبة المشدودة العصب والمعنى غائبة عن أفقنا الفكري. في الحقيقة إن سقف الأفق لدينا هو الإيديولوجيا وما دونها، والإيديولوجيا قد تكون المرادف الفعلي للأمية الثقافية والفكرية. لكننا مع ذلك نتعالى على أمية هي واقعنا وحقيقتنا، وسبب هذا التعالي قراءاتنا السابقة وما تراكم عليها من جبال من اللاتفكير واللامراجعة.
نشأنا على نمط تربوي يعزز ثقافة الببغاء. كلما كنا أكثر ببغائية، كلما حالفنا الحظ، وحصلنا على وظيفة، وأسسنا بيتًا، ونلنا الرضى الاجتماعي. هكذا نصبح جزءًا مطيعًا داخل مفرخة "البعث" الشهيرة بإنجاب الببغاوات وتخريجهم كـ"شعراء" ومفكرين وفلاسفة. من يمكنه أن ينسى الشاعر "العظيم" الفحل مصطفى طلاس، أو المدفعية الخاوية لعلي عقلة عرسان، أو أجمل ببغاء سوري: صابر فلحوط؟
من داخل هذا القفص خرجت قراءاتنا وكتاباتنا وأساليبنا، ولم ننجُ منها إلى اليوم. كان التفكير أقرب إلى وظيفة مدرسية أو حلول نمطية نظرية. في الظاهر تبدو صحيحة، أشبه بالحِكَم المدرسية المعهودة مثل: "لا تحكم وأنت غضبان". لكن ربما كانت نجاتنا الحقيقية أن نلجأ إلى الحكم تحت الغضب نفسه والألم لا سواه، لا أن نهرب منه إلى حكمة يستحيل وجودها في سوريا.
أساس عائقنا الثقافي هو التنظير التجريدي. لدينا مشاكل مزمنة وحاجات ملحة ووقائع ماثلة، لكننا لا نفعل سوى الهرب منها والقفز فوقها. وهذا القفز يتجلى في أسلوب الكتابة لا في موضوعها. فالموضوع السوري مشترك، غير أن ما يجعله غير مرئي، ويخفف من حدته، ويخمد فورانه، هو الأسلوب المعبر عنه. والأسلوب وجه من وجوه التفكير وطريقة في النظر والتأمل. أي إننا عندما نقترح أسلوبًا ونقدم طريقة في الكتابة والمتابعة والتعليق الصحافي، فإننا في الآن نفسه نقدم نمط تفكير جديد.
وفرة المعلومات لا تعني وفرة التفكير. على العكس، قد تساهم المبالغة في ذكر معلومات صِرفة بلا سياق تحليلي ولا خيال تأويلي في تحويل المعلومات نفسها إلى أدوات تفكير جامدة.
سوريا لا تحتاج إلى حكماء ومنظّرين وعقلاء. إذا كان من عقل نجيب، فهو في الجنون أسلوبًا وكتابة. وإذا كان من بداية جديرة بالاعتبار والتفكّر، فهي الكابوس السوري الطويل.
الببغاوية السورية لم تندثر، ليست من الماضي، لم تُجابه على نحوٍ جذري . بعد 2011 ظهرت بثوب جديد، غيّرت الموضوع ولم تغير كثيراً في الأسلوب ولا الشكل. مردّ اللا تغيير كامن في أنماطنا الانفعالية والرومانسية التي لا تجد سوى الماضي لتعيد قوله وتبني عليه. نظل نتعثر بالخطوة الأولى، في وحل البداية، أما الوسط ـ الحاضر فيبقى طيَّ غمره بحنين إلى زمن ليس موجوداً. لكن الماضي في وجه من وجوهه هو الرماد ، هو الحقيقة في طورها الرمادي البارد. ألا ينبغي والحال هذه أن تشتق الكتابة أسلوبها من طبيعة هذا الرماد وقوامه، من الجثة الراقدة داخل اللغة!
