الغزّاويون: لا نريد أن نكون أبطالاً

فوزي ذبيانالأربعاء 2025/10/22
مسيرات العودة غزة (Getty)
مَسيرات العودة إلى غزة (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

أكثر ما تشي به ملامح أبناء غزة أثناء عودتهم إلى بيوتهم المهدمة، بعد إعلان وقف إطلاق النار، هو عبارة: لا نريد أن نكون أبطالاً.

تنمّ ملامح الكبار منهم والصغار، الرجال والنساء، العجز والشباب عن رغبة هائلة بأن يكفّ الآخرون عن المتاجرة بـ"بطولات" مَن لم يصدقوا أن الحرب قد انتهت.

 

تقول لنا تلك الأجساد التي قد أضناها التعب وطول الانتظار أنها بمنأى عن كل بطولات العالم، أنها بمنأى عن كل صمود متوهم. ترى تلك الوجوه المعفرة ببقية أمل بالنجاة تنطوي على دعوة موجهة إلى "أبطال" المواجهة من الذين يعيشون في روما ولندن وسيدني وبروكسل وبرلين والدوحة ودبي وواشنطن وغيرها من مدن العالم وصولاً إلى بيروت وإلى "أبطال" شارعي الحمرا وبدارو بشكل خاص، ترى تلك الوجوه الشاردة تتوجه إلى الجميع بالقول: إن إلصاقكم البطولة فينا هو عار عليكم ولعنة تحلّ علينا.

 

ليست تقاسيم وجوه أولئك الذين ينشدون الأمان والاستقرار فوق ذلك الركام الضخم بعد وقف إطلاق النار، إلا خرائط تستجدي الابتعاد عن كل البطولات... كل الانتصارات... كل ضروب الصمود وعن كل موبقات ناس الأبراج العاجية من الذين يشيدون ببطولات أهل غزة... كلا، لا نريد أن نكون أبطالاً.

 

ترى تلك اللفتات المتعبة تقول الكثير بتلعثم ضاج أو صامت، وترى تلك العيون التي تتخاطف النظرات تأمل بنأمة نوم، ببعض إغفاءة، وأكثر ما تأمل فيه إشاحة النظر عن كل أولئك "المناضلين" ممن يجمعون أوصال "بطولاتهم" عبر شتات أجساد أهل غزة، عبر تلك الأشلاء التي استوفت كل شروط الفجيعة. كأني بكل من قد ساقته الظروف لأن يكون محل رؤية عبر شاشات التلفزة من أبناء قطاع غزة، يبثّ رجاءً، رجاءً هائلاً بأن لا يحوّل مناضلو تلك الأبراج العاجية أيام أبناء غزة إلى مجرد أيام في روزنامة بطولات تلك الأبراج القاتمة. ترى أولئك الذين هللوا لأن الحرب انتهت، يحشدون أذهانهم بأمنية أن لا تكون أجسادهم وأجساد أطفالهم بعد اليوم محطات انطلاق أو محطات وصول لكل عبارات الفخر والمجد والانتصارات والبطولة، سواء تفوه بتلك العبارات المحللون السياسيون أو المفكرون الاستراتيجيون ممن يبشرون بنهاية دولة إسرائيل أو – بشكل خاص – جمهرة الكتّاب والشعراء الذين تقتات ألسنتهم على الدم المراق والجثث الهائمة. نرجوكم – ترى ملامح أهل غزة تقول بعلياء الصوت وهمسه – نرجوكم، اتركوا جثثنا تروي قصصها بطريقتها الخاصة.

 

إن موتي ملك لي، ترى الغزاوي يقول اليوم. لا تتاجروا بهذا الموت، لا أريد لجثث أبنائي أن تكون صاخبة الصوت. أرجوكم، ترى تلك الوجوه التائهة تقول، لا تقيموا ولائم الاحتفالات بصمودنا وجبروتنا وشدة عزائمنا.

 

إن الجثة قد تكون صمتاً مبرحاً وقد تكون دوياً هائلاً، وقد تكون رواية انتظار أو قصيدة محطمة... وقد تكون ذلك كله في آن واحد. أما سَير أبناء غزة فوق تيه الطرق، فتراه يرسم للجثث مآلات أخرى. ترى ذلك السير المضني حريصاً على الاحتفاظ بالجثث المتعبة بعيداً من عيون رافعي شارات النصر في الساحات البعيدة البعيدة. ترى الغزّاوي عبر جرجرة جسده المتهالك في رحلة العودة تلك، يمعس بكعبي قدميه كل تلك التعريفات الصاخبة للنصر والتي أرهقت غزة منذ البدايات الأولى لذلك اليوم الشهير المسمى طوفان الأقصى.

 

إن تلك الظهور المحدودبة والتي تنقّب بين الركام عن جثة أو عن بقية جثة، ليس بمستطاعها أن تتحمل أكثر، ليس بمستطاعها أن تكون بعد اليوم سوقاً شاسعة لتجار الصمود والبطولات والانتصارات، القابعين خلف جدرانهم العالية. إن العالم، كل العالم، عديم الوجه إزاء وجوه المعنيين بالجثة، كل العالم بلا ملامح إزاء الحزن الذي يحفر وجوه وقلوب وأكباد أهل الجثة. إننا نرجوكم، نرجوكم بشدة – ترى تلك الظهور المحدودبة تقول - أن لا تجعلوا موتنا المتدفق وسيلة لإضفاء المعنى على بلادة كلماتكم، على نصوصكم، على أشعاركم، على رواياتكم وعلى أحلامكم بالمجد...تمتعوا بغطرسة الانتصارات ورونقها، اشحذوا همم كلماتكم قدر ما تستطيعون، إنما رجاءً اتركونا وشأننا. نحن أدرى بحطامنا وبموتنا وبانهمامنا بتلك الجثث المترامية وبانهمام جثث أبنائنا بنا.

 

لقد شرّع العالم قتلنا لسنتين، تقول تلك الوجوه المتراكمة فوق ركام الأبنية، لقد شرّح الكوكب جثثنا بما فيه الكفاية، وأنعم الموت التحديق فينا حتى ملّ منا... نتوسّل كل الذين أبدوا التعاطف معنا أن لا يسوقوا جثثنا إلى ما يتجاوز حزننا وإلى ما يتجاوز موتنا. لا نريد لهذه الجثث أن تصنع التاريخ بصخب، لا نريد لها أن تطوف العالم متحدية. جلّ ما نريده لها هو أن تستريح. نريد لجثث شيوخنا وشبابنا ونسائنا وأطفالنا أن ترقد بسلام، بسلام لا نهاية له. نريد لموتانا أن يتأملوا، من حيث هم الآن، رأفة التاريخ بنا، نريد لهؤلاء الموتى أن يرقدوا بطمأنينة، أن يرقدوا بسلام لا يباغته في يوم من الأيام أي طوفان كارثي آخر.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث