"أنطولوجيا الفنون التشكيلية في لبنان" لرمزي الحافظ

المدن - ثقافةالأربعاء 2025/10/22
رمزي الحافظ
حجم الخط
مشاركة عبر

صدر لرمزي الحافظ كتاب "أنطولوجيا الفنون التشكيلية في لبنان"، جاء في تعريفه:

 

هناك كتب تُقرأ بتقاطعات الحس أكثر من ترتيب الصفحات، كتب تُفتح لتأكيد أن شيئاً ما ما زال ممكناً رغم كل الظروف. "أنطولوجيا الفنون التشكيلية في لبنان" ينتمي إلى هذا النوع من الكتب، الذي يحاول حفظ ما تبقى من ملامح بلد قبل أن ينزلق من الأصابع. هذا الكتاب لا يقدّم الفن كترفيه أو رمز جامد، بل كخبرة شخصية ووسيلة للبقاء. قراءة الكتاب تشبه فتح صندوق ذاكرة مليء بالصور والأوراق والأسماء التي نجت من النسيان، حيث كل عمل فني يحكي قصة حياة، ويبدو وكأنه أثر ناجٍ من الزمن.

 

هذا الكتاب ليس مجرد موسوعة أو مرجع، بل وثيقة ثقافية تحاول إعادة صياغة الذاكرة اللبنانية بما يعكس تاريخًا طويلًا من الإنتاج الفني في بلد تمزقه هشاشة الأرشيف وتفتت الذاكرة المؤسسية، حيث كثيرًا ما تختفي السرديات الثقافية خلف الصراعات السياسية المتكررة. منذ الصفحات الأولى، يفرض الكتاب على القارئ وعيًا عميقًا بالتاريخ المركب والمجزأ، مدركًا الغربة والفقد والحرب والدعم المؤسسي المتقطع، ويقدم الفن بوصفه مرآة للهوية والمكان والصراعات والغربة والصمود، مع رفعه إلى مستوى شهادة على البقاء، وهو ما يمنحه بعدًا ثقافيًا يتجاوز الجماليات البحتة ويقارب علم الآثار الروحي للذاكرة الوطنية. لا يكتفي الكتاب بالسرد الزمني البسيط، بل ينثر فصوله الموضوعية لتغطي المناظر الطبيعية والبورتريه والتجريد والنحت والتصوير والخط والسريالية والفن البدائي والمفاهيمي والاستشراق والجدران والسيراميك، ليبني خريطة حسية وروحية للهوية التشكيلية اللبنانية، تتراءى فيها الروح الوطنية كمتاهة من الصور والرموز والمعاني المتداخلة.

 

من إنجازات هذا الكتاب رفضه الانصياع للمعايير الضيقة للفنون الجميلة، إذ يفسح المجال أمام الفن التجهيزي والسيراميك والجدران والخط ليشمل ليس فقط الفنانين المعترف بهم، بل المنسيين والمنفيين والمعلّمين الذاتيًا والزائلين، مؤكداً أن هوية لبنان الإبداعية لم تُصنع في صالونات المتاحف أو قاعات الأكاديميات وحدها، بل تشكلت في حوارات خفية بين الفنان ووطنه وذاكرته وذاكرة مجتمعه. هذا التوسيع للحقل البصري يمنح الكتاب عمقًا ديمقراطيًا في رؤيته النقدية ويؤطر تجربة القراءة كرحلة استكشافية في فضاءات لا تقيدها حدود النخبوية.

 

هيكل الكتاب مدروس بعناية، ويعكس رؤية تحريرية متفردة تجمع بين العمق التاريخي والسرد الشعوري. من إنتاج الأيقونات المبكر إلى عصر النهضة، مرورًا بالكلاسيكيين الأكاديميين بين الحربين ووصولًا إلى الحداثة، يشبك النص الأحداث والشخصيات في نسيج سردي يفيض بالحياة، مزيجًا بين التحليل الأكاديمي والنبرة الأدبية. لبنان هنا ليس مجرد مكان جغرافي، بل فضاء يتفاوض فيه كل ضربة فرشاة بين الشوق والمكان، حيث تتحول اللوحات الطبيعية إلى فعل امتلاك للوطن وكتابة له في فضاء غائب ومتلاشي، فتبدو كل لوحة كصفحة في كتاب الغربة والمقاومة والبقاء.

 

يحرص الكتاب على عدم اختزال الفن اللبناني في الكليشيهات الجيوسياسية المعتادة. الحرب موجودة لكنها لا تُفرط في تجسيدها لكنها تتسلل تدريجياً إلى الصفحات، والغربة معترف بها لكنها لا تتحول إلى عدسة واحدة تحكم كل القراءات. يبرز تعدد الدوافع بين الفنانين: بعضهم سعى للهوية الوطنية، وآخرون غاصوا في التجريد لمتعتهم الخاصة، وبعضهم مزج الحداثة مع الخط العربي، وقلة لجأت إلى السريالية كمهرب نفسي، وكل هذه التعددية تُعرض بطريقة تسمح للقراء باكتشاف تعقيدات التجربة الفنية اللبنانية دون إجبارها على مسار أيديولوجي واحد.

 

لا تهرب الأنطولوجيا من معضلات الإدراج والحذف، وتعترف بها، مشيرة إلى أن العديد من الفنانين ما زالوا غائبين وأن الطبعات المقبلة ستعمل على توسيع نطاق التغطية. الكتاب هنا يقدّم نفسه كحجر أساس يمكن البناء عليه في البحث النقدي المستقبلي، ويخلق رابطًا بين السرديات السابقة في الكتب والمقالات والكتالوجات، مانحًا ذاكرة ثقافية متماسكة لبلد تهدده الإمحاء المستمر.

 

العناية البصرية في الكتاب واضحة وغنية، فالأعمال تُعرض بدقة لونية ووضوح، ولا يُقيد القارئ بالصور المصغرة بل يمنح العديد من اللوحات والنحوت صفحات كاملة، لتصل تجربة المشاهدة إلى مستوى الملمس والحضور الحقيقي. أقسام المناظر الطبيعية والتجريد تمنح القارئ تفاعلًا عاطفيًا مباشرًا قبل الانغماس في التحليل النقدي، فتتجسد العلاقة بين العين والذاكرة، بين اللون والتاريخ، بين الصورة والمعنى.

 

المناظر الطبيعية في الكتاب لا تظل مجرد نوع فني، بل تتحول إلى تأمل وطني متواصل. الرسامون يقدمون لكل منهم لبنانه الخاص، فروخ دقيق ووثائقي، أنسي متأمل ومقيد، شرف حزين ونادر، وأيتل عدنان كتلة ألوان مجردة، لتتحول المناظر الطبيعية إلى فعل فلسفي يكتب الوطن باللون والفضاء، بما يمنح القارئ قراءة نقدية وروحية عميقة في آن.

 

الحداثة تتوازن بين السرد الوطني والحوار العالمي، فالفنانون ليسوا مجرد مجربين للشكل، بل وسطاء في حوار فني عالمي، موضحين كيف أن لحداثة اللبنانية لم تُستورد من الخارج بل أعيدت صياغتها وفق الحس المحلي، مضيفة أبعادًا روحية وهندسية وأدبية تغني التجريد الأوروبي.

 

الكتاب ينقل القارئ بسلاسة من الرسم والنحت إلى التصوير والفن التجهيزي وفن الذاكرة بعد الحرب، موضحًا كيف أصبح التصوير والأرشفة إطارًا فكريًا واستراتيجية نقدية وليست مجرد وسيلة، مؤكدًا أن الفن المفاهيمي كان استجابة مباشرة لانهيار الأرشيف الرسمي والذاكرة الوطنية.

 

أسلوب الكتاب متزن وإيقاعه سلس، فتناوب السرد التاريخي والفصول الموضوعية والأقسام الغنية بالصور يمنح تجربة قراءة سينمائية، حيث توجيه العين ومساحة التنفس حول الأعمال الفنية تضفي أناقة وسهولة في القراءة، فيما تظل النبرة الأدبية في مقدمات الفصول صادقة، معبرة عن أن الفن اللبناني لا ينفصل عن الشوق والغربة والبقاء، مما يمنح الكتاب بعدًا أدبيًا ونقديًا متكاملًا.

 

هذا الكتاب هو فعل ثقافي ونقدي، في بلد تحترق أرشيفاته وتكافح متاحفه وتظل ذاكرته موضع جدل، فهو يؤكد أن الفن التشكيلي اللبناني ليس هامشًا زخرفيًا، بل تراثًا معقدًا وجادًا يستحق التوثيق والتعليم والنقاش المستمر كجسم مادي يحتل مساحة، وكوثيقة تاريخية تملأ فراغًا، وكرحلة بصرية تبهج وتحزن وتثير التأمل، يجعل الكتاب القارئ يدرك أن الفن في لبنان لم يكن يومًا حدثًا عرضيًا، بل كان أحد أكثر لغاته دوامًا وعمقًا. كل صفحة من الكتاب تحمل رسالة صامتة، تحكي عن الضوء، المكان، الأشجار، والأسماء الملونة على الجدران، لتؤكد أن الحياة والفن مستمران، وأن الحفاظ على الذاكرة واجب جماعي. الرسالة النهائية واضحة: لقد عشنا هنا، ورأينا هذا الضوء، ورسمنا الأشجار، وتركنا آثارنا، كي لا يُمحى ما كنّا. هذه الصياغة تجعل الكتاب أكثر من مجرد سجل فني. إنه شهادة عميقة على الوجود، على الذاكرة، وعلى قدرة الفن على النجاة.

 

كتاب Anthology of Visual Arts in Lebanon يأتي في نسخة إنكليزية من الحجم الكبير، ويقع في 308 صفحات، متوفر في المكتبات وعبر موقع www.gallery.com.lb/anthology  

(*) يوقع رمزي الحافظ كتابه في 23 تشرين أول في المتحف الوطني، الساعة السادسة مساء.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث