حين كتبتُ في المرة الأولى عن اليهود في لبنان أو "الطائفة الشبحية" في بلد الطوائف، سارعت باحثة فلسطينية مقيمة في نيويورك، للتواصل معي عبر فايسبوك بحثاً عن يهود لبنانيين لم يغادروا بلدهم. توجست من طلبها، لمجرّد قولها إنها "تكتب بحثاً عن أملاك اليهود في لبنان، وتريد مقابلتهم"، ولم أكن أعرف يهودياً في الواقع، على الرغم من اطلاعي على معظم نتاجات المثقفين اليهود اللبنانيين، ونضالاتهم ومشاركتهم في التحركات الشعبية ودعم القضية الفلسطينية، سواء المخرجة هيني سرور أو المناضل اليكو بيضا أو الروائي سليم نصيب (أو تركية)، وهو من أصل سوري كان يحمل الجنسية الإيرانية في زمن الشاه وأتت أسرته الى لبنان في الأربعينات من القرن الماضي.
لم يكن في بالي أي يهودي باق في لبنان، كنت أعرف شخصاً أو شخصين أعتنقوا الدين المسيحي أو هكذا قالوا، والناقد الراحل جوزف طرّاب "اليهودي الأخير" الذي لم يكن يطل إعلامياً إلا في مرات نادرة، مع أنه يكتب نقداً فنياً في جريدة معروفة، وسبق أن قُتل بعض أقاربه في الحرب على أيدي الميليشيات. وبدا لي أن الشبحي سمة عامة عن اليهود اللبنانيين بسبب هجرة أو مغادرة معظمهم، ومن بقي منهم عاش في الخفاء ما عدا ليزا سرور التي بقيت في وادي أبو جميل، وهي بحسب كتاب "حين انطفأت شرفات اليهود في وادي أبو جميل" للإعلامية ندى عبدالصمد(*)، "عادت إلى منزلها المتضرّر، في وادي أبو جميل بعد الحرب، رغم سوء وضعه، وعاشت فيه كيْ لا تخسر حقها في التعويض. وعندما قبضته، انتقلت إلى منزل في بيروت، وماتت فيه. فحياة التكتم التي فرضها اليهود على أنفسهم في لبنان، أو فرضتها الظروف عليهم، لها استثناء واحد مفاجئ في الشكل والمضمون. هذا الاستثناء شكلته ليزا، التي اكتشفتها الصحافة في نهاية العام 2006".
وكانت ندى عبد الصمد قد أصدرت الطبعة الأولى من كتابها العام 2009 بعنوان "وادي أبو جميل/ قصص عن يهود بيروت" الذي جاء في تعريفه أن "كل الشخصيات الواردة في هذا الكتاب شخصيات رُويت رواياتها على ألسنة أصدقائها أو جيرانها أو كما يتذكرها هؤلاء، وهو كتاب يستند بالتالي إلى وقائع حصلت بالفعل وصيغت بأسلوب روائي لا يغير في حقيقة أحداثها ووقائعها الرئيسية شيئاً"... "أما الجامع بين قصص يهود لبنان أنهم غادروا بسرية تامة، وانقطعت بعد ذلك اخبارهم"... و"غالبية القصص في هذا الكتاب تتوقف عند الرحيل".
وحين أعدّت اللبنانية شيرين قباني في نهاية دراستها بجامعة بيروت العربية، وثائقياً مدته حوالى 16 دقيقة عن يهود لبنان، حمل عنوان "الطائفة الإسرائيلية في لبنان: أصوات بلا وجوه"، واجهت صعوبات في إنجاز هذا الفيلم. فالوصول إلى اليهود وتصويرهم أمر شبه مستحيل نظراً لخوفهم من الملاحقة. وواجهت مشاكل كبيرة واتهامات بالعمالة لإسرائيل، حتى الفيلم الوثائقي الذي صورته الاعلامية ميرنا سركيس لـ"المدن بلاس" ويعرض قريباً، لم يظهر فيه اليهود اللبنانيون، بل أمكنتهم وحاراتهم ومدافنهم وأطياف طقوسهم ووجودهم في لوائح الشطب.
وتكثر التقارير الصحافية التي تتحدث مع شخص يهودي يرفض الكشف عن اسمه أو الظهور أمام الكاميرا، أو المعلومات التي تستند أشخاص كانوا جيران الجالية اليهودية في طرابلس وبيروت وصيدا أو قدموا دراسات عنها، من أحمد قره طالب الذي أصدر كتاباً بعنوان "الطائفة اليهودية في صيدا: تاريخها وحضورها" وكشف أن أخر يهودي غادر المدينة العام 1985، إلى الباحث الراحل ناجي زيدان الذي خصص قسطاً واسعاً من عمره للبحث في تاريخ اليهود اللبنانيين، وكتب كتاباً بالفرنسية "يهود لبنان، من إبراهيم إلى يومنا هذا، تاريخ جماعة مختفية". وحضور اليهود في بيروت، بدأ بحسب زيدان "العام 1799 وكانوا حينها 4 أشخاص، وفي العام 1932 أصبح لهم 253 اسم عائلة أصولها من سوريا وتركيا وروسيا وسواها". ويعود وجود الجالية اليهودية في طرابلس إلى أوائل العصر الإسلامي، وتحديداً في زمن معاوية بن أبي سفيان الذي دعا أوائل النازحين اليهود للاستيطان في هذه المدينة. في وقت لاحق، استقر اليهود في صيدا سنة 927، ثم في بيروت وصور، ودير القمر وحاصبيا وفي الشوف وعاليه في العام 1860، ثم حوالي العام 1906 في زحلة ثم وبحمدون - المحطة الصيفية.
وشبحية اليهود تحضر أكثر في السرديات الشعبية والأساطير التي لا تنتهي، من منطقة رعيان في جرود بلدة عرسال إلى بلدة نحلة في سهل البقاع، إلى قرية بنواتي في جزين التي يقال إن اليهود فيها نقلوا نفوسهم الى صيدا قبل أن يغادروا، ولا أثر لهم في القرية إلا في الحكايات، إلى مدينة بعلبك التي تواجد فيها اليهود في القرن السادس عشر بحسب بعض الوثائق العثمانية.
لم يبق من اليهود في لبنان إلا الأسماء في الروايات الأدبية أو في لوائح الشطب الانتخابية، وبعض العقارات التي يديرها وكلاء، والبيوت الخاوية والكُنس المهجورة في بحمدون ودير القمر وصيدا ومناطق أخرى، والمدافن التي أكلها العشب، وهي قرابة 3500 مدفن موزّعة على عقارين بمساحة تفوق 10 آلاف متر مربّع.
وهناك روايات متكررة حول اليهود في لبنان، حول علاقتهم بالنار وحظر إشعالها يوم السبت، وهناك خبرية تتكرر في أكثر من مكان أن الحاخامات ارتدوا اللباس العسكري عندما غزا الجيش الإسرائيلي لبنان العام 1982 واختفوا.
وحال اختفاء اليهود في لبنان إشارة إلى الرياح الديموغرافيا في العالم، من الأندلس إلى روسيا إلى أوروبا والشرق الأوسط، وفي الوقائع تحوّل جزء كبير من اليهود في العالم من ضحايا هاربين من مكائد وتعسف والأنظمة الاستبدادية إلى جلادين في الكيان الإسرائيلي.
(*) توقع ندى عبد الصمد كتابها في سينما متروبوليس - مارمخايل، بيروت، بين الخامسة والسابعة من مساء اليوم.
