كيف كسب شوقي معركته ضد العقاد والمازني بشأن عبد الوهاب؟

أشرف غريبالثلاثاء 2025/10/21
عبد الوهاب وأحمد شوقي
عبد الوهاب وأحمد شوقي
حجم الخط
مشاركة عبر

تستطيع القول إن حياة الشاعر المصري أحمد شوقي كانت بين هلالين كبيرين عنوانهما شهر تشرين الأول. فإن كان يوم ميلاده قد اختلف حوله المؤرخون بين 14 و16 و17 و23 من هذا الشهر في العام 1868، فإن تاريخ وفاته واضح لا لبس فيه هو 16 من الشهر نفسه، لكن بعد 64 عاما من يوم ميلاده شغل فيها دنيا الشعر العربي بنحو 23 ألف و500  بيت من الشعر حتى قيل أنه أغزر من كتب الشعر بالعربية، ورغم أن حياة الرجل قد تماست مع قصور الحكام وعامة الشعب، ومجالس الأدباء والمتصعلكين، ورغم اقترابه من مراكز الثقل السياسي في مصر ما منحه عزًا ونفيًا وأيامًا متقلبة، ورغم أنه قرض الشعر قصائد ومسرحًا وقاده قلمه إلى كثير من المعارك الأدبية، فإنه لا يُذكر اسم شوقي إلا وتداعى معه أمران مهمان. أولهما مبايعته أميراً للشعراء من جانب كل شعراء زمانه من العرب في تلك الحفلة المهيبة في ربيع 1927 والذي شهدته دار الأوبرا الخديوية في قلب القاهرة بمناسبة صدور ديوان "الشوقيات". أما الأمر الثاني فهو رعايته للموسيقار محمد عبد الوهاب حيث وفر له الحماية والأمان والثقل الثقافي إيماناً منه بالموهبة اللافتة التي تمتع بها المطرب الشاب، فقد كانت لأمير الشعراء قدرة واضحة على الاستماع للموسيقى والغناء وتذوقهما، ومن ثم التمييز بين من هو صاحب موهبة أصيلة ومن هم دون ذلك.

 

عبد الوهاب في شبابه
عبد الوهاب في شبابه

 

وكان اهتمام شوقي بالموسيقى سابقاً – بطبيعة الحال – على تعارفه إلى محمد عبد الوهاب بعقود، بفضل صداقته لبلبل زمانه المطرب عبده الحامولي كما كانوا يلقبونه، ومن بعده المطرب محمد عثمان، بل قيل أنه كان يكتب للحامولي بعض مواويله التي يتغنى بها في حضرة الخديوي توفيق حاكم مصر. ويُروى عن الشاعر خليل مطران – أحد الذين بايعوا شوقي – أنه كان وأحمد شوقي وإسماعيل باشا صبري يشتركون في وضع كلمات الدور الواحد الذي يتغنى به الحامولي، كل منهم يؤلف جزءاً من الدور من دون ذكر أسمائهم تماشياً مع معتقدات ذلك العصر. كما كان شوقي صديقاً شخصياً للشيخ سلامة حجازي أشهر مطربي زمانه، مطلع القرن العشرين، وظلت في قلبه غصة لأنه لم يستطع رثاء حجازي وقت وفاته فيما كان شوقي خارج مصر، لا سيما أنه رثى كل من المطربين عبده الحامولي وعبد الحي حلمي، وهو الذي أقنع الثاني بتلحين وغناء قصيدة المتنبي التي يقول فيها: أصخرة أنا؟ مالي لا تحركني تلك المدام ولا هذي الأغاريد؟ وقد نظم شوقي كثيرا من الأدوار والطقاطيق رافضا وضع اسمه عليها، لكن ينسب إليه بعض الفضل في تخليص هذه القوالب الغنائية من ركاكة كلماتها، لا سيما بعد عودته من منفاه في الأندلس على أثر انتهاء الحرب العالمية الأولى.

 

سعد زغلول مع امير الشعراء احمد شوقى
سعد زغلول مع امير الشعراء احمد شوقى

 

غير أن علاقة أمير الشعراء بمحمد عبد الوهاب كانت أمراً آخر تماماً في حياة الرجلين على السواء. ووفقاً للرواية المعروفة، فقد رأى شوقي صبيا صغيراً يغني بين فصول روايات فرقة عبد الرحمن رشدي في حدود العام 1917، اسمه محمد البغدادي، فراعه أن يتم اغتيال طفولة هذا المطرب الطفل بين السهر وتمايل السميعة، فاشتكى إلى حكمدار القاهرة كي ينزله بالقوة من على المسرح ويعيده إلى بيته حماية لسنّه الصغيرة. ومنذ ذلك الحين، قرر شوقي أن يتولى عبد الوهاب بالرعاية، وأن يعمل على صقله ثقافياً، بل وكان أيضاص يصحبه معه في رحلاته الخارجية، ويطلعه على فنون الغرب من مسرح وأوبرا وما إلى هذا. وينسب إلى شوقي كذلك فضل تعارف عبد الوهاب على الطبقة الراقية من المجتمع المصري، وحدث مثلاً أن أقام معهد فؤاد الأول للموسيقى حفلة كبيرة بمناسبة إعادة افتتاحه في حضور الملك فؤاد نفسه، فلما دعي أمير الشعراء للحفلة استطاع أن يقنع منظميه بضرورة أن يغني ربيبه عبد الوهاب في هذه المناسبة، ونظم له واحدة من أشهر أغنياته هي "في الليل لما خلي" الأمر الذي أطرب الملك وطلب استعادتها مرة أخرى من جانب المطرب الشاب، ومنذ تلك الليلة أصبح عبد الوهاب يحمل لقب "مطرب الملوك والأمراء".

 

العقاد في شبابه
العقاد في شبابه

 

ولا ريب أن شوقي كان يسعده نجاح ربيبه الشاب، لكنه في الوقت ذاته تملكه شعور بأن هذا الشاب هو صنيعته، وملك يمينه، ولا ينبغي لأحد أن يستميله إليه. وفي ذلك قصة روت خيوطها الأولى السيدة روز اليوسف في مذكراتها التي حملت عنوان "ذكريات" وصدرت طبعتها الأولى سنة 1953، قبل أن تعيد الهيئة المصرية العامة للكتاب طباعتها مرة أخرى منذ سنوات. فقد شن كل من عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني في كتابهما "الديوان" حرباً ضروساً على أحمد شوقي وعلى شعره، قبل مبايعته بإمارة الشعر، متهمين إياه بأفظع التهم، الأمر الذي ساء شوقي كثيرا، فأرادت سيدة المسرح والصحافة أن ترأب صدع هذه الخصومة، فدعت الثلاثة إلى حفلة بسيطة في مقر مجلتها في شارع جلال بحي المنيرة بالقاهرة، وهو بالمناسبة المقر الذي كان شوقي قد أهداها إياه من أملاكه الخاصة. وكالعادة اصطحب الشاعر الكبير معه ربيبه المطرب محمد عبد الوهاب، وحضرت الجلسة كوكبة من الأدباء والصحافيين من عشاق الطرب والغناء، وفي تلك الليلة غنى عبد الوهاب على عوده، أغنيات وقصائد، فأبدع عزفاً وغناء واستحوذ على إعجاب الجميع وفي مقدمتهم العقاد والمازني. ومن أروع ما غناه عبد الوهاب تلك الليلة - بحسب رواية روز اليوسف - الدور القديم "قده المياس زاد وجدي"، وكان من نتاج هذه الجلسة أن كتب العقاد في جريدة "البلاغ الأسبوعي" لصاحبها عبد القادر حمزة، وكان العقاد يرأس تحريرها، قصيدة مدح فيها صوت المطرب الشاب، جاء فيها:

إيه عبد الوهاب إنك شاد.. تطرب السمع والحجي والفؤادا

قد سمعناك ليلة فعرفنا.. كيف يهوى المعذبون السهادا

وأعدت الحديث في كل لحن.. فعشقنا من الحديث المعادا

ونفينا الرقاد عنا لأنا.. قد حلمنا وما غشينا الرقادا

بارك الله في حياتك للفن.. وأبقاك للمحبين زادا

 

 كما كتب المازني في جريدة "الأخبار" لصاحبها أمين الرافعي، مقالة وصف فيها عبد الوهاب وهو يغني، وأشاد بجمال صوته وحسن أدائه وعزفه كما فعل صديقه العقاد، الأمر الذي بدا لشوقي اتفاقاً مسبقاً بين الرجلين لاستقطاب واستمالة بلبله المفضل، وتوجس شوقي أن يتأثر عبد الوهاب بمديح العقاد والمازني له، لذلك عقد العزم على تنفير عبد الوهاب من العقاد والمازني والقضاء على أي رغبة قد تساوره في الاتصال بهما والتقارب معهما، فكتب مقالة نشرها من دون توقيع – كعادته فى مثل هذه المعارك - في مجلة "الكشكول" قال فيها:

 سأل أعرابي أحد المغنين: ما الغناء؟ فأراد المغني أن يُري الأعرابي كيف يكون الغناء فأخذ يتغنى ببعض أبيات من الشعر وراح يلقي برأسه إلى الوراء ثم يعتدل ويتجعد وجهه وتدور عيناه، فقال الأعرابي: والله يا أخي ما يفعل بنفسه هكذا عاقل، وقد صدق فلم تر من استملح هذه البشاعة من المغنى غير المازني فقد كتب فصلاً عن المغني النابغة محمد أفندي عبد الوهاب قال فيه: "إنه إذا تناول العود وأصلحه واستعد للضرب عليه يرفع رأسه حتى يكاد يمس ظهر الكرسي ويرسل طرفه إلى الفضاء، وتلك أوصاف مفتراة ظنها المازني مما يحمد من المغنين فوصف عبد الوهاب بها، وعبد الوهاب منها براء، ولا أرى المازني - أخزاه الله - يصف مغنيا ولكنه يصف قردا وخيل إليه أنه يمدح وهو يهجو ولا شأن لنا به. 

 

عبد الوهاب

 

ثم بني شوقي على ذلك ما يريد له أن يقر في وعي ووجدان عبد الوهاب وهو النفور من العقاد والمازني، فيقول: فلينظر عبد الوهاب كيف يكون جزاء من يطرب الحمقى والجهال فلا يكافأ إلا بأن يلحقوه بالقرود، وضماناً من شوقي بأن يطلع عبد الوهاب على تلك المقالة، استدعاه إلى بيته وأسمعه بنفسه ما قاله الكاتب المجهول وراح يثني عليه شارحاً لعبد الوهاب كيف كشف الكاتب زيف مديح العقاد له وفضح قبح ثناء المازني. كما أوعز شوقي لصديقه الصحافي حسين شفيق المصري أن يكتب في مجلة "كل شيء" التي كان يرأس تحريرها وتصدرها دار الهلال ويقول: "هل أراد العقاد أن يمدح عبد الوهاب أم أراد أن يذمّه حين يقول: قد سمعناك ليلة فعلمنا.. كيف يهوى المعذبون السهادا". إذن لم تكن ليلة طرب بل ليلة شقاء، إن عبد الوهاب لم يشج الشاعر ولكن أشقاه وسامه سوء العذاب، وكيف يتفق هذا الشقاء وهذا العذاب مع وصف العقاد له قبل ذلك بقوله: أطرب السمع والحجى والفؤادا. وبالفعل نجح شوقي في ما أراده، وابتعد عبد الوهاب تماماً عن العقاد والمازني، وبقي الوفي الأعظم لأمير الشعراء وذكراه، واستمر يغني له بالعامية والفصحى على مدى سنين عمره، ليظل اسم موسيقار الأجيال مقترنا باسم أمير الشعراء أحمد شوقى إلى الأبد.

 

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث